عرض مشاركة واحدة
قديم 12-28-2012, 10:55 PM رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
م .نبيل زبن
المؤسس
 
الصورة الرمزية م .نبيل زبن
إحصائية العضو







 

م .نبيل زبن غير متواجد حالياً

 


افتراضي


10- الشاعر شفيــق حبيــب
مسيرة ُ عطـاءٍ وشـاهدٌ على العصْر
الدكتور نادي ساري الديك
١٤كانون الثاني (يناير) ٢٠١١

وُلِدَ الشاعر شفيق حبيب عام 1941 بقرية دير حنا، حيث أنهى دراسته الابتدائية بمدارس القرية والثانوية بالمدرسة الثانوية البلدية بمدينة الناصرة عروس الجليل، وقد درس المحاسبة في دار الموظف بحيفا ليخرج إلى الحياة بدبلوم محاسبة، وقد انتسب إلى معهد الصحافة والعلاقات العامة بالمعهد البريطاني بمدينة القدس.
إن توجّهات شفيق نحو الصحافة والمحاسبة لم تـُثــْنِه عن قول الشعر والتفاعل معه، إذ برز نشاطه الأدبيّ من خلال مشاركته في المهرجانات الشعرية وفي الصحافة اليومية والمجلات والإذاعة كذلك، تلك السبل التي عرّفته بالناس وجعلت الآخرين يعرفونه، فإلى جانب المحاسبة والشعر نجده يكتب المقالة السياسية والنقدية معاً مما جعل نتاجَه متنوعًا، والشاعر غزير النتاج (إلى حد ما) فقد أصدرأربعة عشر ديوانـًا شعريـًا هي:
1.قناديل… وغربان – القدس - 1972 – شعر .
2.
مأساة القرن الضليل – الناصرة – 1976 – شعر
.
3.
دروب ملتهبة – الناصرة – 1980 – شعر
.
4.
وطن وعبير – الناصرة – 1981 – شعر
.
5.
أنادي: أيها المنفى!! - الناصرة - 1984 – شعر
.
6.
أحزان المراكب الهائمة - الناصرة – 1987 – شعر
.
7.
الدم والميلاد – الناصرة – 1988 – شعر
.
8.
العودة إلى الآتي – الناصرة 1990 – شعر
.
9.
ليكون لكم فيَّ سلام الناصرة – 1992 – شعر
.
10.
آه يا أسوار عكا – الناصرة – 1994 – شعر
.
11.
تعاويذ من خزف - الناصرة – 1996 – شعر
.
12.
لماذا؟؟!! – الناصرة – 1998 – شعر
.
13.
صارخ ٌ في البرّيـّة – الناصرة – 2001 – شعر

14.
أنا الجاني .. – الناصرة – 2005 - شعر
وقد أصدرَ الشاعر كتاباً نثرياً بعنوان «في قفص الاتـِّهام» وهذا الكتاب عبارة عن سجل لوقائع معركة حرية التعبير ضدّ سياسة القمع المنهجي، كي يكون شاهداً على الديمقراطية المضللة في وطنه، فهو جريء إلى حد كبير، وقد عرّى كثيراً المواقفَ التي صادفته سلباً أم إيجاباً.
وقد شارك الشاعر في مجلات عربية وصحف كذلك نجد بعض نتاجه منشوراً من على صفحاتها. وقد لحقه ما لحق غيرَهُ من الوطنيين، إذ صودرت مجموعته «العودة إلى الآتي» واعتقل الشاعر وحوكم بتهمة مساندة منظمة إرهابية ومساندة الانتفاضة، حيث أحرقت جميع مؤلفاته التي استولت عليها الشرطة من المطبعة والمكتبات واستمرت محاكمته ثلاث سنوات أي حتى العام 1993، وقد نكث بعض المسؤولين العرب(!) بوعودهم تجاهه، وشغلَ ناطقاً باسم رابطة الكتاب الفلسطينيين وعضواً في نقابة الكتاب العرب. شفيق حبيب من الشعراء الذين قالوا كلمتهم دون وجل أو خوف، فقد تحدّى الجبروت ولم يخضع لسلطان العبودية، فهو من الذين ساعدوا على تجسيد ملامح الثقافة الوطنية والهُـويّة القومية للشعب العربيّ الفلسطينيّ، على الرغم من الهموم التي لاحقته وروّج لها المنتفعون والقمعيون، لذا نقول إن الشاعر بدأ حياته من خلال النسج على منوال غيره من الشعراء، ونعني بذلك الفائدة التي استمدّها من سابقيه، فقد عاش في فترة حرجة إذ فتح عينيه على مآسي النكبة والهجرة وملحقاتها مما جعل ذلك ينمو في نفسه ويُظهره من خلال شعره فالذي يتصفح نتاجَه الأول يجد أن بعض التعابير اللغوية والأسلوب الذي ينتهجه إلى جانب صُوَره من الأمور المألوفة ومثل ذلك ليس عيباً، لأنه يُعدّ من باب التأثير والتأثر، فليس مصادفة ً أن يبدأ الإنسان مشواره عبر التأثر الذي يلازم الجميع، لذا نجد موضوعات الشاعر ليست جديدة في بداية مشواره الشعري، علماً أن الجدّة والحداثة لا تكمن في الابتعاد عن القديم وإنما تحويل ما هو مألوف وعادي إلى شيء مُشوِّق وغير مألوف ومقبول معاً، فيكون الإنسان قد حدّد همومه وحدّد أهدافه وصاغها من خلال مُنطلقهِ الذي يراه مناسباً.
فالهمّ الوطنيّ والنزعة نحو الانتصار للوطن وقضاياه قد وجدت منافذها عبر نفسية الشاعر وأفكاره فأصبح يغني للوطن مما جعل «أغنية لبلادي» ظاهرة مألوفة وقد توَّجَها بصيغة البناء الهندسي المعهود لدى العرب تجاه قصيدتهم الشعرية، وإن جاءت تلك القصيدة وقد قاربت من الحديث اليومي أو الكلام المعهود ولم يستطع الشاعر خلق حالة التدفق الشعوري والنماء الشعري، فهي قد تكون من بواكيره حيث طبع الديوان الذي يضمّها عام 1976، وهو «مأساة القرن الضـِّلـّيل»، ومثل ذلك ليس جديداً على الفن والفنانين، إذ ليس كل نتاجاتهم مُحكمة وتتدفق فيها روحية العنفوان الفني والأداء المحكم.
أغفو على اسمك ِ يا بلادي وأضمُّ جرحك ِ في فــؤادي
إني أحبك ِ في دمــــــــــي قدَرا ً يُعززُ بي عنــــــادي

أهفــو أقبِّـــل ُ كلَّ شبــــر ٍ في السهول ِ وفي الوهــاد ِ

أشتاقُ أن أنهـــلَّ مـــــــاءً يرتــوي بيَ كلُّ صــــــاد ِ

أو أن أكونَ النـّــورَ يغـْـــ ـسِلُ وجهَ أرضي من فساد ِ

لو كنت عصفوراً يحـــوِّمُ يرتمـي فـــي ظـــــــلِّ واد ِ

لعَشِقتُ أزهـــارَ الجليــل ِ تضـوع ُ من أعطـاف ِ شاد ِ

وعلى مثل هذا النسج تستمر القصيدة في النماء، مما جعلها مسرحاً تعجُ ّ بالهموم وتعرية المواقف وبيان حالات التمني والشوق التي تلف الشاعر، وقد جعل الفكرة تسيطر على مقدرة البناء الفني، بمعنى أننا نجده وقد غلـّب الفكرة على مقومات الفن إلى حدّ ما، وهذا لا يعني أن القصيدة قد مُسخت، وإنما نجدها وقد تناغمت مع معطيات الحديث اليومي ولغة المباشرة والوضوح والمكاشفة، وكأن لغة َ الرفض السياسي، وقلمَ الصحافة هما اللذان تدخلا في صياغة هذه القصيدة.
فمناجاة الوطن والتبحُّر في همومه والغوص في أعماقه من سمات هذه القصيدة إلى جانب القصائد الأخرى، كما هي «رسالة إلى الشهيد» من ديوان «دروب ملتهبة…» الذي صدر عام 1980، هذه القصيدة تجعلنا نسبح في فضاءات الشهادة والارتفاع بقيَمِها ودوافعها، لأنها مسألة مقدسة ومُرادة، فهي من قرائن الوطن، حيث بها يسمو ويعلو نماؤه وعطاء أبنائه الخلص إلاّ إن هذه القصيدة قد جاءت في بنية أكثرَ تماسكاً وتفاعلا ً وإن كان للقافية ووقعها أثرٌ لا يستهان به، إلاّ أننا نلمس حالة التفاعل والتماسك في البناء الهندسي لجسد القصيدة فالألفاظ لها دلالاتها في كل شطر من أشطرها، وكذلك في قصائد أخرى، فعندما يعمد على ذكر مسألة معينة نجد ألفاظه وقد تناغمت وأصبحت العلاقة وُثقى بين المبنى والمعنى، وكأنه يعمد إلى خلق حالة التوافق بين الدالّ والمدلول وبين الإيقاع اللفظي والجَرْس الموسيقي وبين الأشياء الأخرى، إذ تتلوّن العاطفة تبعاً للواقع النفسي والتفاعل النفسي مع الحدث إلى جانب المقدرة التفاعلية والتعامل مع اللغة وبنائها الأسلوبي:
هذي دماؤك َ يـا شهيدي!! عطرٌ على أرض ِ الجدود ِ
من كلّ قطــــرة ِ عنــــدَم ٍ لمعـت ْ سيـوف ُ ابن الوليد ِ

ما أطهرَ الدّمَ حين يـُسْفكُ في الدفــاع وفي الصُّمود ِ

ما ماتَ شعــــبٌ شامـــخ ٌ أقـوى مـن القـَدَر العنيــــد ِ

شعبٌ يخالُ الموت َعُرْساً فـي الدفـاع عن الوجــود ِ

الواضح هنا أن معيار الحياة الصالح لدى الشاعر قد تحدّد في مفاهيم المواطنة الصالحة، والتي تبحث عن روحية الوطن ودوافع الشهادة،لأن الشهادة أقوى من الدوافع الأخرى وهي مسألة مقدسة في الأعراف والتقاليد والديانات كلها، علماً أن موضوع الشهادة قديم مستحدث، إلاّ أن اللافت للنظر هو جعل الشهيد ينتسب إلى الشاعر فقد ألحقه بياء النسب وخاطبه بـِ «يا شهيدي!!» وهذا نداء موجّه للشهيد وقد جعله حيّاً لأن صيغة النداء لا تتم إلاّ مع العاقل المستجيب للنداء، علماً أنه ينقلنا عبر وعيه التام إلى مسألة التفاعل مع الشهيد ومواقفه وأهدافه، لأن الشهادة سمة من سمات الشعب الذي ينتسب إليه الشاعر كما يقرّ ذلك من خلال أشعاره، فعملية الولوج في مسألة الشهادة لهي من الأمور الحساسة فعلاً والمقبولة نفسياً وفكرياً عند مريديها إلى جانب المسألة العقائدية، إذ إن العقيدة لدى الأديان تحثّ على الشهادة في سبيل الحق فيكون الشاعر قد أفاد من معطيات الواقع إلى جانب الدوافع الدينية والتاريخية والفكرية، مما جعله يتمسك بأفكاره وينهي قصائده بالتفاؤل وإظهار ملامح القوة النفسية بدلاً من الضعف الذي يدبّ في أجساد الآخرين.
إن عملية التغني بالشهادة لهو أمر مقصود في حد ذاته، وكأنه في ذلك يدق ناقوساً خصّصه لإظهار معالم الشهادة وسموّها، وهذا نظنه إسقاطاً على حال الشهيد وما يتمتع به من مكانة وعزة لأنه خلق رابطاً أبدياً مع الناس وأرضهم التي هي بمثابة السِّتر والحياة، وخلق حالة من النبوءة الهادفة تمشياً مع معطيات التسامي والخوض في معمارها ودوافعها، وكأن الشاعر بحسّه الإنساني وبفطرته يقدّر ما للموضوعات التي يطرقها من قيمة حتى يستحوذ على ألباب الناس ونفوسها ويرفع من معنوياتها كذلك، لأن خلـْق الإحساس بالشيء من الدوافع التي تجعل الآخرين يتمسكون به ويدافعون عنه، وذلك إنتشالاً للوعي الجماهيري الذي يحاول الآخرون تقريره وطمس طموحاته، ذلك الأمر جعل الشاعر يؤكد على أهمية موضوع الشهادة في المجتمع حيث الحق تلك القصيدة بقصيدة أخرى هي «رسالة الشهيد خالد بن فتح الله الفلسطيني» التي وردت في ديوان «وطن… وعبير»، وكأن الشاعر لم يكتف بوصف حال الشهيد وبيان مشاعر الناس تجاهه وإنما أراد أن يستبطن نفسية الشهيد ويتحدث بإسمه، وهذا توكيدٌ حقيقي من الشاعر على أن الشهيد حيّ يرزق، لأن عملية الاستبطان تلك تنمّ عن ذلك الإيمان حيث عودة الشهيد تدلل على مدى عمق العلاقة بين الشهيد والأرض والمجتمع الذي رُبّيَ من خلاله وبه :
أعودُ إليك يا وطني!!
أعودُ إليكْ

لألقيَ كلّ أشواقي
على كتفيْـكْ

أقبـِّلُ أرضَ أمجادي
وأملأ صدريَ المحزونَ عِطراً
من شذا زيتون أجدادي
أطيرُ على سهولكَ.. أنتشي
في ذروةِ القِـنـَن ِ
أضمُّ ترابَكَ الممهورَ من دمِنا
إلى قلبي… إلى أذني
لأسْمَعَ وقعَ أقدام ٍ على التاريخ تنزرع ُ
لقد كانوا هنا أسيادَ هذي الأرض.. فاقتـُـلِعوا..
إن موضوعَ الشهادة قد استحوذ على مكانة مرموقة في شعر شفيق حبيب، وهذا ليس غريباً لأمور متعددة، لذا نجده وقد جعل الشهيد في صورة المتكلم المنتسب والمنتمي والمتمنـّي والمحبّ والرافض وغير ذلك، مما جعل القارئ يحسّ بعمق الإحساس وصدق العاطفة لدى الشاعر، ونجده يمتلك حساسية عالية تجاه كثير من الموضوعات وهذا ينمّ عن مصداقيته، في التعامل مع الواقع، ومن ثم جدار الحصار الذي يفرضه الأعداء مما يجعل المسألة ضدّية حيث الضدّ يـُظهر حسنة الضدّ، فقد يجد المرء متنفساً في شعره أو قد يجده يعبّر عن ذاته من خلال الموضوعات التي يطرقها.

فحبُّ الأرض والوطن والشعب والمقدسات من لوازم شفيق حبيب الإنسان الشاعر، فهو جريء في طرح أفكاره وإيصال معتقداته وهمومه للناس،وكأنه يشخـِّص علاقاته مع الآخرين، وكأن حالة توحّد قائمة بين حبّ الوطن والأشياء الأخرى وبين الشاعر، فعلامات الحبّ واضحة الدلالة والتمييز، وملامح التجدد واضحة وبارزة إلى حدّ كبير، وكذلك التكيف مع المسائل التي يريدها الشاعر لا التي تفرض عليه، لذلك نجده يتقمّص شخصية َ الشهيد ويـُنطِقها بما يريد أن ينطق إلاّ أن هذا الأمر ليس بعيداً عن روحية الشهداء، وإن كان الشهداء غير متساوين أو متجانسين في طرح همومهم ونسج أفكارهم، بمعنى ليسوا أصحابَ أيدلوجيا فكرية متأصّـلة واحدة، وإنما قد نجد منهم من يمتلك الإيمان البسيط والمسلماتي، إلاّ أن هذه الإسقاطات لم تلغ ِ دور الشاعر أولم تنفـِّر الآخرين منه ومن أشعاره، فالشهيد الذي يضحي بأثمن الأشياء (الحياة) ليس كثيراً عليه أن ينطق كما نطق الشاعر في رسالة الشهيد المتعددة الجوانب والأفكار التي تعجّ بالهموم، حيث يجعله يتحدث بصيغة الماضي والحاضر والأمر ويروي كما كان يسمع، إلى جانب بيان حالات الإستغراب والتفجّع وما إلى ذلك من قرائن الإنسان الرافض والمحبّ معاً.
هذا الحبّ والتوحّد مع الأشياء جعلت من الشاعر إنساناً يمتلك حواسَّ متعددة،كلها تصبّ في خدمة المبدأ الذي يؤمن به، فإلى جانب صُوَر الشهادة التي تملأ الدنيا فخاراً والنفس عبقاً وأريجاً، نجد صوراً قاتمة تدور حول شخصيات أخرى مرفوضة كالمُخبر الذي يتبع نفسه للمحتل، علماً أن المحتل لا يرى فيه سوى قمامة او مسخاً يضرّ ولا ينفع وإن يوحي له بأهميته ومنطلقاته، مما جعل قصيدة (مُخبر… ومحقق)، من ديوان (أنادي أيها المنفى!!) صُوَراً صارخة تعجّ بالكراهية والاحتقار لهذه الشخصية، وقد جعل الشاعر الشخصية تنطق بما لا تحب، لأن روحية الشاعر هي الناطقة، وكأنه يحيلنا هنا إلى قصيدة السياب التي تحمل العنوان ذاته «المخبر» والذي يقول فيها السياب:
«أنا من تشاءُ أنا الحقيرْ، صبّاغ ُ أحذية الغزاة» إلاّ أن روحية السيّاب وشاعريته تختلفان عن الشاعر شفيق حبيب، وكذلك طريقة البدء في الحديث يكون مغايراً إلى حدّ المغايرة أحياناً، وكذلك مسألة التدفق العاطفي والصعود الإيقاعي وخلق النشوة نجدها لدى السياب أعمق إلاّ ان النوايا والأهداف واحدة، وهي تعرية هذه الشخصية المذمومة والمحارَبة فكرياً ونفسياً، وكأن عملية التحدي قائمة، بين (المتكلم = الشاعر – والمخاطب = المخبر أو المحقق) لأن علمية الإخبار والتحقيق متلازمتان وهدفها واحد، فطريقة الخطاب استفزازية مفعمة بروحية التحدّي، لأن طبيعة الصراع واضحة، حيث المحتل بفكره الصهيوني، بينما الحكومة في زمن السيّاب مثلاً كانت وطنية مرتبطة بالاستعمار، لذلك تتجدد الأفكار ويبحث عنها المريدون :
هذا أنا يا مخبرُ!!
لا أنثني – لا أنحني – لا أ ُقهرُ

إني أبن شعبٍ صابر ٍ..
ما لان في وجهِ العواصفِ

والرياح ُ تزمجرُ..
هذا أنا يا مخبرُ

يا خِرقة ً يزهو بها نعلُ المُحقـّق ِ
مثلَ وجهـِكَ أغبرُ
طبّلْ وزمّرْ عند سيـّدِكَ المُحقـّقِ ِ
إنني لا أكسَرُ
ستظلّ كالمستنقع الآسن ِ
في ليل الخنا يا مُخبرُ..!!
فالتحدّي يفوحُ من صيغة الخطاب إلى جانب السخرية وعلامات التهكم والرفض. ـ «حققْ معي ما شئتَ يا متحضـِّر ُ»، وهذا رسمٌ واضح للوجه القبيح لكلٍّ من المخبر والمحقق، إلاّ أنه سبّق صيغة الخطاب مع المخبر على المحقق، إذ التحقيق يُبنى على ما يأتي به المخبرون، لكن النتيجة واحدة، وهي ظلم الآخرين الذين يـُنقل عنهم ما ليس فيهم أو يـُنقل عنهم ما يُغضب المحتلين، فيما يراه الآخرون عملاً إنسانياً ووطنياً كما هي علامات المقاومة والتبريز، فكلما احتدم الصراع يبقى المخبر صاحب حظوة عند المخبر له، مما يجعل العلاقة سلبية بين المخبر والمخبر عنه وإيجابية ولو شكلاً بين المخبر والمحقق، فكلاهما يملأ الخاتمة التي حُدِّدت لهما وهما يرتكزان إلى المغالطات والقوة، من أجل تحقيق الأهداف والامتيازات إن وُجدت، لأن المخبر في جلِّ الحالات يكون من المغرّر بهم أي من أبناء جلدة المُخبَر عنه، لذا يخلق ذلك حالة من الصراع غير المتكافئ والمتجانس أيضاً.

ومن أجل عملية التوحّد التام بين موضوعه وأفكاره وطموحات الآخرين نراه يعمد إلى أقوال مأثورة كي ينصّص بها عنونا لديوان شعري له كما فعل مع مقولة السيد المسيح عليه السلام إذ جعلها عنواناً لديوانه (ليكون لكم فيَّ سلام) الصادر عام 1992، هذا العنوان يُعطي توجهات كثيرة لأن شخص السيد المسيح يُعَدُّ رمزاً للتضحية والفداء المتجدد، والعرب يمتلكون رموزاً متعددة قدمتْ نفسها قرابين شفاعة وفداء لمجتمعاتها بدءاً من تموز عاشق عشتار كما تقول الميثولوجيا الكنعانية الفينيقية ومروراً بالسيد المسيح وصولاً إلى الإمام الحسين سيّد الشهداء في كربلاء إلى جانب شخصيات أخرى قد لا تصل إلى مستوى أولئك وإن اختلفت ثقافاتهم إلاّ أن النتيجة واحدة وهي التضحية بالذات وهو أسمى غاية الجود :
«ودنا المطرْ والضوءُ في قلبي انهمرْ وأطلُّ من خلفِ الغيوبِ الرّعدُ والبرقُ المؤجَّجُ والمُدجَّج ُ بالخطرْ وتحرّكتْ في البحر أشرعة ٌ وفي الأرض الحجرْ وتناثرت في الجوّ أسرابُ الطيور ِ على حذرْ ودنا المطرْ ماتت بذورُ الورد في أرضي وجفّ الضّرع ُ واحترق َ الزهَرْ إن الرصاصَ يئزُّ يبحث ُ عن رؤوس ٍ عن صدور ٍ.. عن وطرْ…»
من هنا تتماثل حالة الضحية والتضحية معاً، حيث الرصاصُ عنوانُ الغدر والقتل وهو الوسيلة الناجعة التي تـُسهـِّـل المَهمّات وتقصّر المسافات بين القاتل والمقتول والغادر والمغدور، فالرصاص لم يكن معروفاً في الأزمنة القديمة، وإنما وسائل الغدر متعددة ونتيجتها واحدة، وكأن الشاعر يريد القول إن الرصاص يخلـّف آلاف الضحايا، لأن عملية التماثل في العنوان تعني أشياء كثيرة، وكأنه يقول إن المسيح الذي ضحّى وغـُدِرَ ممن ضحّى من أجلهم معاً تتجدد صورته في الذين يحصدهم الرصاص في أيامنا هذه، علماً أن الرصاص لا يفرّق بين الضحايا من حيث العمر والعقيدة والانتماء الفكري إلاّ أن جلّ الضحايا هم من الأطفال والصبية، الذين يشكلون أمل المستقبل، فبقتلهم يتم غدرُنا مرتين، مرة في الحاضر والأخرى في المستقبل، لذا كان الشاعر يعي ما يقول وإن كانت لغته وصفية صارخة يبشر بانفجار نفسيّ وبأس روحيّ وبرفض عقليّ، كل ذلك يتجلى من خلال نسج المفردات التي شخصت بروز الحجر الذي يُعَدُّ سلاح المقاومة الشعبية في فلسطين. إذن أصبح الحجر أكثر تكثيفاً في الحياة الفلسطينية الرافضة، مما جعل الشاعر ينقل هذا التكثيف إلى شعره ويجسده، لذا تجددت الحياة، وبرزت ملامح جديدة، وصَوّرَ سلاحاً لم يكن معهوداً بالكثافة التي تعامل معها الناس في عصر الانتفاضة، فالشاعر في هذا المقام يُبرز صور الطفولة إلى جانب صُوَر الهدم والدّمار، وكذلك صور النزاع غير المتكافيء إذ أصبح التحدّي شاخصاً، ومتوحداً في العشق الأزلي للأرض والإنسان، وهذا جعل لغة الشاعر إخبارية تهكمية تميل إلى لغة التخاطب والحوارات كما هي عناوين المقالات الصحفية ونشرات الأخبار الموجزة والمطولة، وكأنه يستعرض أحداثاً من خلال صورة المذيع عبر التلفاز أو بوساطة المذياع لذا جاءت اللغة شبهَ سطحية وواضحة لا تحمل إرثاً سوى الرفض والتنكر من الحال القائم وهذان أمران يحرص المرء على تعزيز العلاقة معهما إيجابياً وليس سلبياً وهذا ما نراه في قصيدته بعنوان «نشرة إخبارية»:
سيداتي! آنساتي! سادتي!
نشرة ُ الأخبار يتلوها غرابْ

طاردت قواتنا الأطفالَ من بابٍ لبابْ
قتلتْ منهم ثلاثه
بعد كرٍّ بعد فرٍّ ومجيءٍ وذهابْ
القت القبضَ على قائدهم – زين ِالشبابْ
عمرُهُ سبعة ُ أعوام ٍ وما زال طليقاً
لم يذقْ مرّ العذابْ
فنقلناه إلى السجن ِ
وعاد الجيشُ بالنصر المهابْ
على الرغم من بساطة التعبير واللغة المباشرة إلاّ أننا نلمس أكثرَ من صوت في هذه القصيدة، وكأن بعض الأثر الدرامي قد اتضح من خلال هذه القصيدة، لذا نسمع صوت المذيع وصوت المعلق ومن ثم صوت المنحاز للشباب وشيخِهم الذي عمره سبعة أعوام إلا أن سمات السخرية التهكمية هي السائدة، حيث برز أسلوب القمع الهمجي، وتحقيرَ الذات المعتدية، إذ الضحية هم أطفالُ الحجارة، وتكرّس ذلك بوساطة استخدام الأطفال التي تتناسب مع روحية الهدف، فكل من الأفعال له هدفه ودلالاته المرادة ، ومن اجل خلق الصورة الحركية التي توازي صورة النساء وهي تـُبَثُّ تلفزة ً، مما جعل الأمر واضحاً وجلياً إلى حدّ بعيد، وقد تتعاكسُ الصُّوَرُ أو تتلاقى إلى أن النتيحة واحدة، والثوابت مبحوث عنها من قبل الشاعر لسان حال الأطفال الذين هم لسان حال شعب يبحث عن ذاته من خلال ثورته، فاللفظ هنا وسيلة لا غاية، لأنه لا يبحث عن جماليات الفن واللغة وإنما يبحث عن النتيجة المبتغاة، من خلال لوحات شعرية متعددة الملامح واضحة الهدف والميل صوب الحق، وتتلاحق صورُ الشهادة والشهداء في دواوين الشاعر، وكأنها أحد هواجسه وانبعاثاته النفسية والفكرية معاً.
لذلك غدا التاريخ يشكل حالة زخمية تأخذ بيد الشاعر كي ينهلَ ما يشاء من موضوعاته وصوره، تكريساً للفكرة التي يؤمن بها، وهي نصرة شعبه وتعريه المغتصب من جماليات إدعاءاته وبهتانه، فقد جعل من عكا متمثلة بأسوارها حالة من التفجّع والتآسّي وصولاً إلى قمة الحدث وكأنه يقول إن استمرارية العذاب الواقع على كاهل شعبي جعلت السنين والأيام مرة وقاسية رغم التحدي والثبات كما هي الحال مع أسوار عكـّـا وشواطئ البحر الذي يقذف بأمواجه العاتية، من خلال ذلك نستيقن أن الشاعر شفيق يقارن بين أسوار عكـّـا وتحدياتها عبر الأزمنة وبين الشعب وتحدياته، بذلك جاءت صُوَرُهُ فاعلة، مما جعل حالة الغضب تتجدّد بوساطة صور الشهداء الثلاثة الذين أعدمتهم قوات الانتداب البريطاني، وهذا يؤكد أن الزمن يتجدد أو يعيد نفسه لكن بصور مختلفة:
آه يا أسوار عكـّــا!!
يا صدى أناتِ أعوادِ المشانقْ

يا حجازي…!
يا عطا الزير
…!!
وجمجومَ الخوارقْ

آه يا أسوار عكا!!
أين غاب الفرحُ الورديُّ عبرَ البحر ِ

في المجهول ِ
في تيــه ِ المآزقْ
آه لو عادت إلى الأحضان ِ

أسرابُ الزنابقْ
آه يا أسوار عكـّـا!!
عند اقدامِك ِ للطاعون قبرٌ

وجنازاتُ انتكاسات ِ البيارقْ
إن صُوَرَ التكرار تتلاحق، إما أن يكون تكراراً لفظياً أم معنوياً، كما نراه يكرّر حرف النداء (يا) وهذا التكرار يجيء منسجماً مع روحية نقل الخبر أو تصوير حالة التفاعل مع الحدث والتجربة، فالهدف من التكرار هنا هو خلق حالة التحدي والمواجهة وتبريز روح المواجهة وفرض مشاعر الحماس على الناس طوعاً لأنَّ تجسيد الظلم وتبريزه يؤدّيان إلى طغيان حالات الغليان والرفض والتمرد والانسياق مع الحدث واندفاعياته.
والذي يقرأ جُلَّ أشعار الشاعر شفيق يجدُ روحية المثابرة والتفاعل والأمل هي المسيطرة إلاّ أن التركيز يجدُ بعضَ الضبابية وسيطرة اليأس على النفس وتملكها، وهي أمر طبيعي ومألوف لدى النفس الإنسانية، لأنها لا تعيش على وتيرة واحدة او لا تمرّ في خندق واحد، وإنما تتجدد الحياة من خلال تقلبها وتعدد خنادقها ومواقفها، فمن الطبيعي أن نجدَ مثل هذه الحالات وقد يعكسها الإنسان على أعماله وأفعاله، وهذا ما فعله شفيق الشاعر في ديوانه «تعاويذ من خزف» وبالذات قصيدته «ضياعٌ في بحر الذات» وهذا يجسد حالة الصدق والصراحة من الذات والآخرين، فالمتحدث إنسان له ما للآخرين وعليه ما عليهم.
ينسابُ في صوتي الضبابْ
وعلى شراع سفينتي
في بحر ذاتي
ينطوي أملُ الإيابْ
الليلُ يلفظني
فيَجْرَعُعني الضياع ُ والاكتئابْ
هذا أنا
كأسٌ من المرِّ المحنظل ِ والعذابْ

هذا انا
طيفٌ تطاردهُ

النوائبُ… والسّوائبُ… والكلابْ
شلوٌ… قضت أشلاؤهُ
بين التخندق ِ… والتمزق ِ… في الشعابْ
لا الذنبُ ذنبك ِ يا ذئابْ
بل ذنبُ كلِّ الرافضين َ… الهائمينَ
على متاهات ِ الخرابْ

إن قرائن اليأس تتحدد بوجود هذا النص الذي انطلق من جوّانيات الشاعر وقريحته مما يجعل اللذة تستكمل مع الاستمرارية في تتابع هذا النص، فهو مغاير للنصوص الأخرى لأن علائق النفس البشرية تتضح من خلاله، فالقوة الجائرة التي يرفضها الشاعر في عمومياته وانطواءاته النفسية تدفعه كي يستعذبَ البؤس الذي يفضله عن حياتهم والتعامل معها، واستعذاب الألم ليس حالة شاذه هنا كما يراه النفسانيون وإنما هي حالة مراده، اندفاعية تكثيفية إلى جانب بعضهما، مما يجعل المأساة تتجسد عقلياً بعد أن تجسدت نفسياً ومعنوياً، وهذا يأتي بوساطة الانطلاقة من الأنا التي خالف فيها ماضيه الشعري، وكأنه يعود إلى حقيقة كانت مغيبة عنه أو كان يتجاهلها ومثل هذا الأمر يأتي بعد نضوج وانتصاب قامة شعرية لدى شفيق، وهذا يفسّر بعدّة أوجه، منها أن شفيق الشاعر عاش حياة الأمل من خلال فنه رافضاً الواقع المرّ، أو أنه تعامل مع الواقع بالرفض النفسي وعايشه جسدياً إلاّ أننا نجده في ديوانه وقصائده يتعامل معه نفسياً وجسدياً، فهل هذا من أثر الواقع السلبي حيث خـُدع الشاعر بالناس جميعاً، أم أن العمر ما عاد يحتمل نزعات التمرد وكما كان سابقاً، لذا جاءت هذه الأمور بواقعيتها وبسوداويتها تـُبرز الواقع المرفوض جسداً وروحاً وفكراً معاً.

فالشاعر هنا لا يبرِّر سوداويته أو ضياعه بصور هشّه وإنما بصور تفاعلية مقنعة ومستقطبة مع بعض الدهشة أحياناً، ونرى ذلك تطوراً ملحوظاً في بنائية الفن الشعري لدى الشاعر، مما يجعل هذا التتابع الواقع مؤلماً وهذا نتيجة للخيبة التي تحيط بالآخرين من الآخرين، فالخـُواء الذي يعيشه الشاعر لم يأت من فراغ وإنما هو خواء تراكمت بوادره منذ سنين وتصاعدت نشوتها المُرّه حتى تجسدت شعراً جميلاً وإن كانت سوداويته غالبة على غيرها، ومثل ذلك نجده عند الشعراء المرموقين أمثال السياب وقباني والبياتي وغيرهم، وهذا ما تؤكده بعض مقطوعاته من الديوان ذاته:
يـُؤرِّقـُني….
يـُمزقـُني
….
جرادُ القمع ِ والقهر ِ

ويحرقُ في شراييني
بقايا النبض ِ من عمري
حملتُ حطامَ أوردتي
وأسلحتي على ظهري
وجبتُ العالمَ المخصيَّ
أنزفُ مثلَ جذع ٍ
دامع ِ الجذر ِ
ولما عدت مكلوماً
مهيضاً
لم أجدْ قبري

إن هذه العلاقة مع الأشياء نظنها علاقة عقلية وليست مسألة سطحية عابرة، وهذا الأمر يتأكد بوساطة الأدلة المنطقية لتلك العلاقة والتي يدلل عليها من خلال رؤيته للأشياء وكأنه يأتي بيد الإنسان ويأخذ بإبهامه ويضعه على الجرح النازف، لكن بطريقة قد توحي بالتمزق وردم الذات وتجسيد حالة الشلل وشلّ روحية العطاء لدى المواطن العادي وغير العادي الذي يرى في عطاء الشاعر بلسماً أو وسيلة في تفادي الهموم أو محاربتها أو القضاء عليها مما يؤكد ملازمة الشاعر للحدث الإنساني، إلاّ أن الشاعر هنا بهذه السوداوية يُعرّي الأشياء ويجعل مسمياتها واضحة المعالم لا زيف فيها ولا رتوش، لذا تصبّ كل هذه الأمور في رؤية واحدة ألا وهي فلسفة الواقع السياسي والتعامل معه، وإن جاء ذلك وفق صورة مغايرة للرفض المباشر واللغة الهجومية والأساليب الخطابية أو الاستعلائية على المخاطب المحتل، لذلك تزاحمت الصُّوَر الخارجية التي تمس الإنسان من الخارج وداخلية نفسية وعقلية تعلق بمنطق الإنسان وتوجهاته، كل ذلك تجمّعَ ضدّ الشاعر كي يخلق عملية توازن اعتقد الشاعر أن هذه العملية هي التي تـُبقي على كيانه وهي تعرية الجميع دون النظر إلى العواقب الوخيمة أو غير الوخيمة التي تحيط بالإنسان وتدفعه للارتقاء بالشيء. ففي هذا المجال نجدُ الشاعرَ وقد وازن في عملية البناء الأسلوبي من حيث الواقعية والرومانسية وقد أفاد من الطروحات كلها التي يعتقد بصلاحها للنهوض بفكره وفنه، من أجل الاستمرارية في نقل دفقاته الشعورية عبر صُوَر تتناسب وروحية أفكاره وواقعه النفسي في حينه، لأنها تعبِّر عن ذات إنسان فنان وليس عن ذات إنسان يتجلد كي يعي الآخرون صورة ثابتة عبر أزمنة وأمكنة متغيرة، لذلك نجده ينتقل بين العموم والخصوص من اجل النهوض بالذات وتبويب الحياة عبر قنوات من السهل التعرف عليها، فهو من الذين يتابعون الحياة بكل نوازعها وتقلباتها السياسية والفكرية مما يجعل الأمور تنعكس على فنه الشعري وروحيته كفنان وإنسان.

نحن شعبٌ نتغني بعيون العولمَــه
نتغنى
يومَ أن ننسى حضارات ٍ..
وتاريخاً… وآداباً

ونغدو مغنمَــه

نحن لسنا في رحابِ العولمّــه

إنما نحيا عصوراً مظلمَــه
نحن شعبٌ يلحسُ الأيدي..
ويستجدي رضا الأسيادِ ذلاًّ

كي ينالَ الأوسمَــه
نحن شعبٌ هامشيٌّ
كذبيح الطير يحيا مأتمَــــه
إنّ أشعار شفيق حبيب عبارة عن شريط من الصُّوَر منها المحزن المبكي المُنفـِّر إلى جانب المفرح أحياناً إلا أن هذا الشريط يكتنز من الأشياء ما لم يجده المرءُ في أشعار كثيرة، وكانه كلما تقسو عليه الحياة يخرج بقايا من حشاشاته ويعرّيها للآخرين، حتى جعل صورتنا مسألة العولمة من الأسس التي يسير عليها الآخرون تسريعاً لهدم كيانات شعبنا وأمتنا والمنطقة بأسرها، مما يجعلنا نؤمن أنه يستخدم حواسّه مجتمعة لإظهار صوره وهمومه الهادفة البناءة، واعتبار ذلك من الدوافع البناءة من خلال التأثير الجمالي والنفسي وكذلك البنية العامة للنص.
إن هذا التنقلَ بين الموضوعات والهموم والأساليب جعلتنا نرى أن الشاعر شفيق يُفيق وينام مع هموم أمّته وقومه، وقد توزعت مشاعره بين المحلي والعالمي القومي والإنساني فالقدَر الذي صنعه كارهو العرب والعراق قد جسّد أشياء مؤلمة وفاعلة في مسيرة الناس إن كان ذلك بالسلب أم بالإيجاب :
نخيلُ العراق ِ يموتُ شموخاً
وتبقى الذئابْ
وتبقى جيوشُ الذبابْ
لك القلبُ يا شعبـَنــا!!
في عراق التحدّي… ولكنْ

جناحايَ في ألفِ قيد ٍ ونابْ
فكيف الوصولُ إلى كل طفل ٍ
وقد أغلقوا كلَّ درب ٍ إلى الله
أو منفذ ٍ للسحابْ
فهل دجلـة ُ الخير يقوى
على غسْل ِ عار ِ التقهقر ِ
عار ِ التعهـُّر ِ
عار ِالتآمر ِ
عار ِ الكلابْ؟؟؟
فالشاعر هنا يُرينا مدى الحالة التي وصل إليها العرب من تشرذم وتقزيم عندما يقدم بعضهم على ذبح بعضهم الآخر، وهذا يؤدي إلى خلق الغربة الخانقة للنفس والروح حيث جعل ألفاظه كالرصاص أو المتاريس التي خلقت دفاعاً عن مبدأ مُراد وأفكار هادفة.
لذا نقول إنّ شفيق حبيب الشاعر، تنقـّل بوساطة أشعاره بين الرومانسية والكلاسيكية والواقعية وقد أتضح ذلك من خلال لغته وأفكاره وأساليبه التي تعبِّر عنه، مما جعل تأثير الصحافة واضحاً وجلياً وتأثير السياسة كذلك لا مفرّ منه مما جعل بعض لوحاته الشعرية هجومية وساخطة أو رافضة أو عبارة عن شعارات تـُرفع كما الشعارات التي تكتب على الجدران في المناسبات مما جعل السياسة وأدبَها يأخذان نصيبَ الأسد من خلال نتاجه الشعري، فقد كانت جُمَلـُه واضحة سهلة ولغته تتراوح بين الفصحى المعجمية في أحيان نادرة وبين بسيطة معبرة كما السهل الممتنع أو نراه يتعامل مع اللغة كما وأنه يتحدث إلى جمهور بسيط في جلسة خاصة.
وأما بناءُ القصيدة لديه فكان يتراوح بين النظام الهندسي العتيق وهو كثير وبين قصيدة التفعيلة إلاّ أنه لم يُغفل الموسيقا في بنائه الهندسي لقصيدته وإن وجدنا بعض الهنات والضعف من حيث التفاعل الإيقاعي إلاّ أن قصيدته تبقى متماسكة وفاعلة دون منازع إلى جانب ذلك نراه يتأثر بغيره من الشعراء كما السيّاب والبياتي ومظفر النوّاب من حيث الصياغة أو استخدام اللغة إلاّ أن نـَفـَسَ درويش لا نجده وهذا أمر قليل لدى الشعراء الفلسطينيين وقد يكون السبب أنهما متقاربان في العمر زيادة على العامل الذاتي ومحاولة خلق شخصية مستقلة.
وبالنسبة للتكثيف اللغوي نجده يتراوح بين مرحلتين، وهما مرحلة المباشرة ومرحلة الغوْص في أعماق الذات وبعثرة ما تحتويه النفس من مكنونات للوصول إلى الهدف مما جعل شعرَه يخلو من الرّموز المعقـّدة وإنما صُوَرُه واضحة وأفكاره مستنبطة سريعة الفهم على الرغم من وجود السوداوية أو الانهزامية أو الإقرار بالواقع الفاسد عبر لغة معبأة ومثقلة بالهموم، إذ تعدّدت أساليبُ الخطاب عنده، فمرة يستخدم النداء وأخرى التحدث بأسلوب الأمر أو النهي مما يجعل التقريريّة والتكرار اللفظي والمعنوي من لوازم أشعاره فهو من الشعراء الذين يختارون كلماتِهم للوصول إلى هدفهم، فصياغة الأفعال وبنائية الجـُمَل تعبّر عن دراية باللغة وهمومها، إلى جانب التعامل مع القوافي والإيقاع وجرْس الألفاظ، كلُّ ذلك يؤدّي إلى رفع مستوى الأَداء والتمسّكِ بالمطلوب والبحثِ عنه.
نظرات في «شآبيب» الشاعر شفيق حبيب
أصدر الشاعر الفلسطيني شفيق حبيب، ابن قرية ديرحنا، مجموعته الشعرية الجديدة "شآبيب" وهي المجموعة رقم 16، خلال مسيرة شعرية وعطاء قاربت نصف قرن، أمد الله في عمر شاعرنا ليمتعنا بشعره وحروفه العذبة.
لا بد قبل الولوج والسفر في أحشاء المجموعة، من التوقف مع العنوان اللافت، فهو عنوان من مفردة واحدة، اختاره الشاعر بدقة متناهية، كما يظهر، فهذه المفردة رغم كونها لفظة واحدة، إلا أن معانيها متعددة، فمنها دفعات وزخات المطر، ومنها في العدْو ، والدموع ، والحسن كذلك. في اللسان: "الشَّـآبِـيبُ مِن الـمَطر: الدُّفعاتُ. وشُؤْبُوبُ العَدْوِ مثله. ابن سيده: الشُّـؤْبُوبُ: الدُّفْعةُ من المطر وغيره"اه. واستعيرت شآبيب في الدموع، وأنشد الخليل في هذا الموضع: "إذا ما التَقيْنا سالَ من عَبَراتنا شآبيبَ يُنأَى سَيْلُها بالأصابع"
الشُّؤْبوبُ: أوَّلُ ما يَظْهَرُ من الحُسْنِ، وشِدَّةُ حَرِّ الشَّمْسِ، وطَريقَتُها، ج: شآبيبُ". اه. حين نقرأ فهرس المجموعة، نجد أنها نتألف من أربعة أقسام، ولكل قسم عنوان، وهذا يشير إلى معنى من معاني الشآبيب، قياسا على معناها – دفعات- فهي دفعات من نفث روحه ودموعه، والدموع تكون في الحزن والفرح، والشعر مخرجه الروح والنفس، وليس طرف اللسان؛ لكن أيضًا، حين نطل على عناوين القسم الأول "شآبيب" نجد أنه أيضا يحمل وجها من المعنى، لكنها دفعات ودفقات من الحزن والقهر، وحتى في قصيدته الأولى في ذكرى مولده، لم يستطع الشاعر التخلص من حزنه وألمه وغضبه، ولذا نرى أن تفسير العنوان أقرب ما يكون إلى دفعات ، سواء من حيث تقسيم المجموعة إلى عدة أقسام – على القياس، أو دفعات الحزن وما يختلج في روحه.
ونرجح معنى دفعات من الدموع هنا، كتفسير للشآبيب، فقصائد المجموعة كلها، سواء ما حملت أنفاس القهر والغضب وما إلى ذلك، أو ما حملت أنفاس الفرح والوجدانيات، يمكنها أن تُسيل دمع الشاعر، كونها خلجاته في السرور والغضب.
القصيدة الأولى، على بحر الطويل، استعمل التصريع في البيت الأول والبيت قبل الأخير، وجريًا على منهج الشعر الأصيل، كونه حقًّا الشعر الأصيل، وسندع التسميات التي يكثر استعمالها حديثًا، مثل كلاسيكي تقليدي، وما شئت من تسميات، ونقول: إنه الشعر الأصيل الذي يستحق اسم الشعر؛ في القصيدة الأولى، ومن البيت الأول الذي يختزل فيه الشاعر تجربة عمرية ويصف حاله:
(على شاطئ السبعين حطت مراكبي
وناءت بأحمال الرزايا مناكبي) ص5.
لنقف قليلا مع قول زهير بن أبي سلمى:
"سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يعش
ثمانين حوْلاً -لا أبا لك- يسأم"
إن بين السبعين والثمانين عقدًا، وقياسًا مع ما مر من العمر، يصبح هذا العقد قصيرًا، كغفوة؛ زهير في بيته سئم الحياة وتكاليفها، ومن يعش ثمانين حولاً يسأم، كما يقرر، لكن شاعرنا لا نرى عنده السأم، بل استعمل مفردة الشاطئ والمراكب، والمراكب تأتي للشاطئ ثم تعاود السفر والرحيل لترسو على شاطئ آخر، رغم أنه في ختام القصيدة أوضح أن المراكب ستمضي نحو المغارب، ونجد الألم لدى الشاعرين، رغم الفارق بينهما، فألم زهير يتبدى من خلال السأم وتكاليف الحياة، وإن لم يذكره، ولدى شاعرنا، من أحمال الرزايا، وهذه الأحمال لم يحملها طائعًا راغبًا، فلا أحد يرغب بأحمال الرزايا؛ فبدلاً من أن يكون شاطئ السبعين للاستقرار والراحة، نجده ينوء بحمل، أقل ما يقال عنه أنه بغيض إلى كل حر. في البيت الثاني يفصح الشاعر عن حاله ورحلته، ليتضح لنا أن حمل الرزايا طارئ عليه وليس منه، ولا هو مسببه، لكنه حمله مكرهًا، وفي البيت الثاني يمكن أن نلمح تشبهًا بالمتنبي في قوله:
"الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم"
أما شاعرنا فيقول:
"مخرت عباب الليل والويل شاعرًا
ولم يثنني قهر وأحقاد غاصب" ص5.
(الخيل والليل والبيداء تعرفني) و (مخرت عباب الليل والويل شاعرًا)، التشبه هنا في البأس والإقدام وعدم الخوف والرهبة.
ويصرح شاعرنا عن هويته:
"أحب فلسطيني وأهلي وأرضها
إذا مسهم ضر، تنادت كتائبي" ص 5.
وقوله ( تنادت كتائبي) يكشف أنه مع الشعب ( أهله) ومنه، لا يتخلى.
في المقطع الثاني من القصيدة، نجد الشاعر الرقيق الذي تعذبه عيون الغواني، حتى وهو في السبعين، لكن تأخيره الغزل عن بداية القصيدة، ربما قصده عمدًا، فقد كان من عادة قسم من الشعراء قديمًا البدء بالغزل في مطالع القصيد، وقد قال المتنبي في هذا المعنى:
"إذا كانَ مَدحٌ فالنّسيبُ المُقَدَّمُ
أكُلُّ فَصِيحٍ قالَ شِعراً مُتَيَّمُ"
والنسيب هو الغزل والتشبيب بالنساء، وهو في الشعر حصرًا، لكن شاعرنا خالف هذا المنهج وأخر الغزل، وجرى على طريقة أبي نواس، الذي سخر من الشعراء السابقين الذين اعتادوا بدء قصائدهم بالوقوف على الديار والبكاء على الاثار:
"عاج الشقي على رسم يسائله
وعجتُ أسأل عن خمارة البلد
لا يرحم الله عيني من بكى حجرا
ولا شفى وجد من يصبو الى وتد
قالوا ذكرت ديار الحي من أسد
لا در درك قل لي من بنو أسد؟".
حتى من البيت الأول تظهر مخالفة أبي نواس وسخريته، بل يعتبر من يسأل عن الطلل شقيًّا، وشاعرنا يشارك أبا نواس في مخالفة الدارج، إن جاز القول، فقد أخر الغزل عن المطلع كنوع من المخالفة، لكنه لا يظهر ابن سبعين في تغزله، فهو شاب:
"تمر بي الأيام والعمر نازف
وما زلت في السبعين غض الرغائب
وإني جميل النفس حر عفيفها
ولكنها تزداد شهدًا تجاربي
أنا شاعر والشعر في كل نبضة
كبركان عشق ثائر في ترائبي
عيون الغواني كم يعذبن خافقي
ويصرعني عمدًا صدود الكواعب
عشقت حسان الحي عشقًا مراوغًا
وقاتلت حتى قيل: خير محارب
نشيد سليمانٍ صدًى في محابري
وأمطار قيس قطرة في سحائبي
تغنيت بالعشق الإلهي مدنفًا
وعدت قتيلاً في سيوف اللواعب" ص 7 - 8
في هذه القطعة، على جمالياتها، نجد ما يقال، فهو ما زال في السبعين غض الرغائب، ثم جميل النفس حر عفيفها، لكن تجاربه تزداد شهدًا، ثم يشكو من عيون الغواني، وصدودهن الذي يصرعه، وقد عبر عن الكل بالجزء بطريقة جميلة في قوله (ترائبي) كناية عن الصدر، والترائب جزء من الصدر وليست كله، ثم أمطار قيس قطرة في سحائبه، ثم آخر بيت، والذي نرى فيه نوعًا من عدم التوافق، فالعشق الإلهي أبعد ما يكون عن اللواعب وسيوفهن، ولا نرى جامعًا يجمع بينهما، إلا أن يكون تغنيه بالعشق الإلهي لسحرهنّ.
بعد هذا تعاوده أوجاعه وآلامه، وهي ليست أوجاع وآلام جسد، إنما أوجاع روح لحال أمته وما دهاها وأصابها:
"زرعت على التاريخ رايات نصرها
ونكستها حين استبيحت ملاعبي
وإني عدو العنف والقهر والخنى
وأعلو بنفسي عن صراع المذاهب
ويبقى أخي الإنسان في الكون سيدًا
ولا أرتضي إذلاله في الغياهب
رفعت لواء السلم فارتاع طامعٌ
وأصبحت صيدًا في شفار المخالب" ص 8 – 9.
تعبير عن موقف ومبدأ في الحياة (عدو العنف/ يسمو عن صراع المذاهب/ الأخوة في الانسانية/يسعى للسلم)، وفي البيت الثاني ، كلمة ( وأعلو) لا نجد شاعرنا وفق فيها، ولو قال
(وأربا / وأسمو) لأصاب المعنى المقصود بدقة أكثر، ويجوز شعرًا تخفيف همزة ( وأربأ)، وشاعرنا يعلم ذلك.
ويختم الشاعر القصيدة ببيتين:
"على شاطئ السبعين ترسو مراكبي
ستقلع عند الفجر صوب المغارب
وماذا سيبقى غير حرف كتبته
على وجه ماء في بحار النوائب" ص 9.
ونحن لا نسلم بقوله (ستقلع عند الفجر صوب المغارب)، بل ستقلع في رحلة متجددة لترسو على شاطئ الثمانين والتسعين إلى ما شاء الله، ونتمنى لشاعرنا العمر المديد، وأن يكون الحرف منقوشًا في الصدور وعلى صفحات الخلود، وليس على ماء النوائب، والدهر دولاب يعلي قومًا وينكس آخرين، لكنه يدور ، ولن يبقى المعتلي صهوته فوقها، وسيحل محله سواه. هذه القصيدة تمثل برأينا عصارة حياة وخلاصة تجربة واختزال معاناة ممتدة في الزمن عمرًا، صورها الشاعر فأجاد واختزل فجاءت من الروعة والإبداع بمكان، وبحر الطويل يناسب موضوعها جدًّا، من حيث مضمون القصيدة، ففيه حسرة وتفجع وآه، ويصلح لها الطويل، ويظهر جودته لحن الشروقي الزجلي، فبينهما قرب، رغم أن الشروقي الزجلي على البسيط، ولا عجب أنهما يخرجان من نفس الدائرة.
القصيدة الثانية في المجموعة ( يا غبار الزمن) وهي "إلى روح الشاعر محمود درويش .. إنسانًا وزمانًا ومكانًا"، وقد جمع فيها وزنين، المتدارك ومجزوء الخفيف، وهذا الأسلوب سلكه محمود درويش بكثرة أيضًا، بل استعمله كثير من الشعراء، والمزج بين الأوزان أسلوب قديم وليس جديدًا، وما زلنا نسمع النشيد الوطني المصري:
"بلادي بلادي بلادي
لك حبي وفؤادي"
فالصدر من مجزوء المتقارب والعجز من مجزوء الرمل. يقول الشاعر :
"يا غبار الزمنْ / عاصفًا/ هادرًا في الوهنْ/يا غبار الزمنْ/يا مرايا وجودنا/ يا خوابي المحنْ/كلما لاح بارقٌ /أو غزا الليل طارقٌ/ضيعتني خيوله/في صحارى الذي مضى/في حنايا الفتن"ص 10. اللون الأسود متدارك والأحمر مجزوء الخفيف، وجاء المزج خفيفًا على الشدو ولا يبدو غير مستساغ، تمامًا كنشيد (بلادي)، لكن الإيقاع واختلاف الوزنين سيخفى على غير ذي العلم بالوزن.
ورغم كون القصيدة تفعيلية إلا أن سطوة القافية ظلت مسيطرة على الشاعر ولم يستطع منها فكاكًا، فتراه يعود إليها بعد كل سطرين أو أكثر، وحتى عندما يأتي السطر على مجزوء الخفيف فإنه أحيانا يستعمل نفس الروي :
"أنكرتني منابري / وتلاشت شعائري/ في ثنايا الدمنْ/ أين صوت الذي/ذاب في عشقه الوطنْ/ كل ما حولنا غدا/ زائفًا/راعفًا/نازفًا/ وانهيارات قادم/ من مهادي إلى الجننْ" ص 11. قوله ( في ثنايا الدمن) متدارك، وقوله ( ذاب في عشقه الوطنْ) (من مهادي إلى الجنن) مجزوء الخفيف.
القصيدة الثالثة (الغول والعنقاء)، جاءت على الكامل الأحذ، ولكن عنوانها وهو جزء من مثل، يعبر عن المستحيلات، وقد قالت العرب ( المستحيلات ثلاثة: الغول والعنقاء والخل الوفي)، وقد حذف الشاعر الأخيرة وأبقى اثنتين، وقد ورد العنوان في بيت من القصيدة، سنأتي على ذكره
"تعب أنا بعروبتي تعب
تغتالني الأحزان والنوبُ
يا أمة هزلت وما برحتْ
تجتر مجدًا كاد ينعطبُ
ما المجد إن لم يسقه خلف
بحضارة تبني وتكتسبُ" ص 16.
وتطفح القصيدة بالمرارة والألم لحال الأمة، ويصل حد الهجاء لشدة ألمه ولما يراه، كقوله:
"فاسجد لأمريكا وزمرتها
من أنت؟ لا حسب ولا نسبُ" ص 17.
بعد هذا البيت وقسوته والألم الذي يكتنفه، لدرجه السؤال من أنت؟ وإنكار الحسب والنسب، يصرخ بعده مباشرة في البيت الذي يليه:
"حدق بشمسك وانتزع قدرًا
يسمو .. فدأب الخائر الهرب" ص 17.
ويمضي حتى يختم القصيدة بقوله:
"الخزي ينخركم ويقتلني
أنتم طعام السوس يا خشبُ
أقلامكم خرق ملوثة
أحلامها الياقوت والذهبُ
تتمرغون بقبو حاكمكم
أنفاسه الطاعون والكَلَبُ
هذي جباه المارقين هوتْ
نقشوا عليها: إننا الذنَبُ" ص 19.
في المعتاد والمعروف أن السوس ينخر، لكن هنا بلغ الحال أن الخزي هو الذي ينخر، واستعاض عن نخر السوس في عجز البيت بقوله ( أنتم طعام السوس)، وما داموا طعام السوس، فهو أيضًا ينخرهم، لأنهم خشب.
ومن شدة وطأة الحال ومرارته على الشاعر ، ترك خطاب البشر واتجه بالخطاب إلى سيد الأكوان:
"يا سيد الأكوان! صرختنا
وصلاتنا يا سيدي! عتبُ
إنا نلومك كيف لا وهبت
كفاك نصرًا؟ إننا السببُ
هذا الرماد أنا.. فلا عجبٌ
أني أنا النيران والحطبُ
الغول والعنقاء وحدتنا
لا الدين يجمعنا ولا الأدبُ" ص 20.
قبل أن نغادر القصيدة إلى غيرها نتوقف مع قوله:
"الدين لله الذي هدمتْ
أركان دوره وانتشت ريَبُ" ص 18.
حتى يستقيم الوزن، يجب قراءة (دوره) بتسكين الهاء، لأن تحريكها يخل بالوزن، وهذه الهاء هي هاء ضمير الغائب، وقاعدتها: الإشباع بعد متحرك والخطف بعد الساكن، وعليه فالبيت فيه خلل وفق قاعدة هاء ضمير الغائب، والتسكين في الحشو ورد في قصائد الغناء منه. قصيدة (زاد الغريب)، وهي كغيرها لا تخرج عن إطار الحزن والألم، وما زاد الغريب سوى لحمنا الذي يأكله ويدخره الغزاة الذين احتلوا العراق مؤونة لهم، وانظر إلى وصفه الحال يوم احتلوا العراق:
"قالوا/ أتينا بالخلاص / وبالرصاص/ يدق أعناقًا رصينهْ/ ويدك أسوارًا حصينهْ/ جاء الغزاة / ورأس حربتهم طوابير خؤونهْ/ لحمي غدا زاد الغريب/ وفي خزائنه مؤونهْ" ص 24.
ولا بد من وقفة قبل المضي، فقد ورد في القصيدة قوله:
"والجذع ضيع في ليالي القهر / والجور غصونهْ" ص 23.
في قوله ( والجور غصونه/ جور غصونه= مُفْتعلاتنْ) اعترى (متفاعلن) الإضمار والطي فسكن الثاني وسقط الرابع وهو الألف، وأغلب العروضيين حديثًا، والشعراء لا يستسيغون طي (متفاعلن) ، ولا ندري وفق أي قاعدة لا يستسيغونها، والقراءة الإيقاعية الإنشادية لا تظهر أي نشاز في الطي هنا، وذلك لأن الراء متحركة، ولا يمد في الحشو إلا هاء ضمير الغائب بعد متحرك، والطي هنا سائغ وليس فيه أي نشاز.
قصيدة (قصائدي منزوعة السلاح) وهي قصيدة تفعيلية على السريع، وسنتوقف معها عروضيًّا لبيان وزنها.
القصيدة تشيع أنفاس مظفر النواب في جانب من مفرداتها، وكذلك معانيها، وحتى سخريتها اللاذعة، كقوله:
"وأمتي مشغولة بالجنس/ واللواط والنكاحْ
فالحبة الزرقاء بيضت وجوهكم
وغذَّت الأعضاء والأشلاء/ في مخادع الملاحْ" ص 31.
ندخل إلى باب عروض القصيدة، وفيها مواضع لم تسلم من خلل في الوزن، كقوله:
"وشوهتْ ملامحي الصروفُ
والظروفُ..
في صحارى الجدب والنواحْ"ص 32.
القراءة الصحيحة هي القراءة المتصلة، لكن سيختل الوزن في السطر الأخير، لأن (في) تكملة للتفعيلة السابقة، وسنخرج إلى تفعيلة أخرى مع بداية (صحارى)، وإشباع حركة الفاء من (والظروفُ) لا يبدو مستساغًا. قوله:
"وفي الخفاءِ
أنتمُ سادة النفاقِ والجناحْ" ص 34.
كلمة (أنتمُ) يجب تحريك آخرها، لتتم التفعيلة التي تبدأ بهمزة (الخفاءِ)، لكن بعدها يختل الوزن. وردت (فَعو أو فعَلْ ) في أكثر من سطر، كقوله:
"فالحبَّةُ الزرقاء بَيَّضتْ وجوههمْ"ص 31
مستفعلن مستفعلن مُتَفعلن فَعَلْ
"من خبز جدتي"ص 35.
مستفعلن فعَلْ.
وفي كثير من الحوارات حكمنا أن (فعو) لا يمكن أن تكون من تخريجات مستفعلن، لأنها ليست منها، فـ(مستفعلن) بعد دخول علة القطع تصبح (مُسْتَفْعِلْ = مفعولنْ) وهنا أصبح آخرها سببًا خفيفًا، وتلزمنا علة أخرى هي علة الحذف، فالقطع يدخل على الأوتاد والحذف على الأسباب، وبإدخال الحذف (مفعو = مُسْتَفْـ) والخبن سقوط الثاني، السين، تبقى (مُتَفْ = فَعَلْ)، لكن هنا فات من يقول بهذا أمر هام، وهو أن التفعيلة تعاقبت عليها علتان متتاليتان ، فبعد دخول علة القطع دخلت علة الحذف؛ أما مفعولاتُ في السريع، فالتخريج عليها هو الصحيح والمقبول ولا يشذ في شيء؛ فقد دخل عليها الخبن فصارت (معولاتُ) ثم اعترتها علة الصلم فسقط الوتد المفروق فبقيت (معو) ، وتقرأ(فَعَلْ أو فعو). وعليه، حكمنا على القصيدة في حال اشتملت على (فعلْ) أنها من السريع وليست من الرجز.
قصيدة (ضاع مني)، وهي على المديد التام، وهي كغيرها في أحزانها ومراتها والغصة التي لا تفارق الشاعر، بدأها بقوله:
"ضاع مني ذات صحو ضياعي
وانزوى خلف الظلال يراعي" ص 56.
ويطابق اللحن الشعبي الذي تغنى عليه في الأعراس الشعبية أغنية ( شيعوا لولاد عمو يجولو) وهو لحن عذب سماعه.
وقد خالط الخفيف أحد أبياتها، وذلك في قوله:
"من يعيد الإنسان سيد أرض
وقبور الأهل ملء البقاع" ص 58
صدر البيت من الخفيف وعجزه من المديد، وقد وقع لشعراء سابقين مثل هذا، ولعل السبب في ذلك، أن اللحن يناسب الوزنين، لذا قد يلتبس الأمر على الشاعر، وهذا البيت رغم أنه من بحرين مختلفين، إذا أديناه غناء على لحن ( شيعوا لولاد عمو يجولو)، فلن نشعر بخلل في الغناء رغم زيادة سبب في الخفيف.
قصيدة (يا هداسا) وهي إهداء لطبيب جراح في مستشفى هداسا، وجاءت تفعيلية (فاعلاتن) بجوازاتها، ونجد فيها شيئًا من الشبه في الحالة مع محمود درويش في (جدارية)، يقول شاعرنا :
"حقنة كالسحر/تغذوني شرودًا.. ونعاسَا/هل أنا في الأرض؟/أم فوق الطباق السبع؟/لا أدري/ضياعًا/وصراعًا/ووجومًا.. واحتراسَا/إنني أبكي على الملقى هزيلاً/بين أسدافٍ تؤاسيني/وأحلام تواسيني/وآلام بكتني/تطحن الأخضر واليابس/في عمري/ وتذروه انهيارًا/وانحسارًا .. وانتكاسَا" ص 74 – 75.
ولدى الشاعر محمود درويش، نجد نفس الحالة تقريبًا، بفارق أن بعض الجمل عند محمود دوريش تسبق ما عند شفيق حبيب، يقول درويش:
"أرى جسدي هناك، ولا أحس
بعنفوان الموت، أو بحياتي الأولى.
كأني لست مني. من أنا؟ أأنا
الفقيد أم الوليد؟" جدارية/ص 28.
"تقول ممرضتي: أنت أحسن حالاَ.
وتحقنني بالمخدر: كن هادئًا
وجديرًا بما سوف تحلم
عما قليل" جدارية/ ص 29.
الشبه في المشهدين واضح، وهناك سواه في القصيدة لدى شفيق حبيب، كأنه مر بنفس حالة درويش من قبل وهو ملقى على السرير في المستشفى بين يدي الطبيب.
قصيدة ( كن جميلاً) على بحر الخفيف، وهي مهداة إلى شفيق حبيب الحفيد، فشفيق الجد يهدي شفيق الحفيد، وفيها يظهر شاعرنا حكيمًا ومعلمًا ومربيًا وواعظًا للصغير يعلمه الخير والبعد عما يشين، وجاءت بعض الأبيات حكمًا بليغة، تصلح أن تدرس في المناهج، وأرى أن هذه القصيدة تستحق أن تدخل مناهج التعليم، لما فيها من جماليات وبلاغة وحكمة. يبدأ الشاعر القصيدة بالعرفان للباري عز وجل على النعمة – الحفيد – وقدومه إلى الدنيا، ويصور أثر ضحكة الطفل في نفس الجد :
"ضحكة تملأ الحنايا حبورًا
بسمة منك ذاب فيها السناءُ
بسمة تبعث الصحارى اخضرارًا
إن همتْ منك دمعةٌ.. فالدعاءُ
يا حفيدي، وكل طفل حفيدي
أنتمُ الخير غامرًا والصفاءُ
إنك الغيث في صحارى وجودي
أنت شهد الحياة .. أنت الرجاء
أنت لحن الربيع ينساب بشرًا
فالحساسين سجدٌ والغناءُ
لثغة منك يا خمر الدوالي
يا ترانيم صوته يا دواءُ" ص 81 – 82.
بعد هذا التصوير والوصف للأثر النفسي عند الشاعر وفرحه بحفيده، الذي لثغته تعادل الخمر، ينتقل إلى لون آخر وهو التعليم والتربية الحميدة لهذا الحفيد أو الوصايا وما يجب أن يتخلق به الحفيد في حياته:
"جدك الصلب لم يهن لسفيهٍ
من يهن ذل.. فالهوان انحناءُ
جدك السيف لم يداهن نفاقًا
زمرة الفحش إن طغى الأغبياءُ
صادق الخيرين واطرح لئامًا
يستوي الصدق عندهم والرياءُ
لا تكن للنُّضار عبدًا ولكن
كن عفيفًا كما الإله يشاءُ
واطلب العلم فالجهالات بؤسٌ
والحضارات نورنا واللواءُ
كن وفيًّا ولا تهادن حقيرًا
عزة النفس كنزنا والوفاءُ
يا امتدادي على صدور زمان
غادر ساد في حماه الشقاءُ
كن جميلاً كخالق الناس وانبذْ
ظلم قوم إذا بغى الأدعياءُ" ص 83 – 84.
هذا المسلك التربوي الجميل والأصيل، الذي سلكه الجد مع الحفيد مقتفيًا آثار الأجداد في التربية وزرع الخير والعزة والكرامة في نفوس الناشئة، جدير أن يكون ضمن منهاج الدراسة، فما أحوجنا للأصالة مقابل ما نراه اليوم.
قصيدة ( سماهر وعلاء) وهي (بمناسبة زواج كريمته سماهر حبيب وعلاء غنطوس) وقد جاءت على المتدارك التام، وفيها لزوم ما لا يلزم، حيث التزم ترفيل العروض والضرب على طول القصيدة، كذلك جاء فيها بـ (فاعِلُ) إلى جانب (فاعلنْ)، وهناك من لا يتقبل هذا، ويعتبر المتدارك وزنًا والخبب وزنًا آخر، وكثيرًا ما قلنا إن الخبب ليس وزنًا، بل هو إيقاع نجده في المتدارك وغيره، حتى لو اختلطت أشكال فاعلن، وفاعلُ أحد أوجه فاعلن وليست شاذة، ويناسب المتدارك لحن الأغنية الشعبية التي انتشرت في سوريا وفلسطين (شفتك يا جفلهْ عالبيدر طالعهْ)، ولاحظ أن مطلع الأغنية متدارك خببي، جاءت تفاعيلها (فعْلُنْ) ما عدا الأخيرة، جاءت (فاعِلُنْ)، وعندما قرأت القصيدة غناء لم أجد أن (فاعلُ) أحدثت نشازًا، بل جاءت سائغة منسجمة مع اللحن.
القصيدة كما قلنا بمناسبة زفاف كريمة الشاعر، فهي تعبر عن نفسه وفرحته بالحدث وصاحبته وزوجها، لذا جاءت رقيقة تفيض حبًّا وترحابًا وجاشت فيها عاطفة الشاعر فأظهر مكنونه بجمالية لا تخفى، وفي أحد أبياتها :
"جوقة شنفت أسماعنا بأغانٍ ** حالماتٍ فردت عليها السماءُ" ص 85.
كلمة (أسماعنا) تخل بالوزن، وربما هي خطأ مطبعي، ولو وضعنا مكانها ( سمعنا) لاستقام الوزن.
أما البيت الذي اشتمل على (فاعلُ) فهو آخر بيت في القصيدة:
"ليلة العمر زانت جميع الليالي ** فالعروسان سماهر وعلاء" ص 86. ظهرت (فاعلُ) في عجز البيت، ولم تخل بموسيقى القصيدة، وذكرنا اللحن المناسب لها. قصيدة ( يا أجمل الناس) وهي رثائية لـ (سالي ذياب وأليكس بوبان) اللذين توفيا في حادث طرق، وفيها خرج الشاعر عن البسيط العروضي، إلى وزن مستنبط منه، ربما بسبب الحالة النفسية للشاعر عند سماعه الحدث، أو محاولة للخروج على المألوف، والخروج هنا، استعمال ( متفاعلن) مكان (مستفعلن)، وقد ذكرنا الوزن في كتابنا (العروض الزاخر واحتمالات الدوائر)، ونرى شيوعًا للوزن على مستوى العالم العربي، بل إن للمطرب العراقي أغنيةً على هذا الوزن، وقد جرى حوار بيني وبين زميل عروضي من العالم العربي، يرفض حلول (متفاعلن) مكان (مستفعلن) في البسيط، ونحن نرى الوضع أشبه بالرجز والكامل، أو الرمل والمتوفر، وسنذكر شيئًا منه للفائدة؛ استمعت يومها إلى أغنية كاظم، وكانت جمية جدًّا، ومنها هذا البيت: (صفعـت وجهـي أهـذا يازمـان أنـا... أنا الذي الحـب أخرسنـي وأعمـانـي) وردت متفاعلن في عجز البيت (رسني وأعـ/متفاعلن)، وكان أداء الفنان العراقي كاظم الساهر، رائعًا جدًّا؛ اضف إلى ذلك، اللحن الشعبي عندنا في فلسطين وديار الشام ( سبل عيونو ومد ايدو يحنونو) وهي أغنية تغنى في ساعة حناء العريس، ويمكن لمن شاء التجريب وغناء البسيط والمنبسط على لحنها، وهنا نشير إلى أن اللحن الشعبي سينقطع في حال جاءت (مستفعلن) المتوسطة (متفاعلن)، لكن وجدناها في أغنية كاظم رائعة الأداء، ويمكن ابتكار الألحان بسهولة.
بدأ الشاعر قصيدته بقوله:
" أرثيكما.. ورثائي الدمع ينهمرُ
والحزن في جنبات الصدر يستعرُ
ألَمٌ يحرقنا من هول فاجعةٍ
أدمت قلوبًا مدى الأيام تنشطرُ" ص 91.
مطلع البيت الثاني (ألم يحر/متفاعلن)، وقد استعملها الشاعر أكثر من مرة :
"أمَلَلْتُماهُ مُقامًا في جوانحنا؟
وكنتما النور والآمال تزدهر" ص 92 .
" فإلى جنان إله، حيث عشكما
ففي السماوات لا موت ولا قدرُ" ص 93.
نذكر الآن ما أشرنا إليه من الرمل والمتوفر، وأن اللحن هو الحكم الفصل في جواز أو عدم جواز أي وزن، والمتوفر موجود في أصل الدوائر وليس طارئًا مستحدثًا، وتركيبه ( فاعلاتُكَ فاعلاتُكَ فاعلاتُكَ)، والأخيرة تسكن كافها لأن العربية لا تقف على متحرك.
لنأخذ لحنًا شعبيًّا عندنا ونطبق الرمل والمتوفر عليه، فمثلاً في الأعراس نغني خلال صف السحجة:
(خيلنا تدوس المنايا خيلنا) ونغني أيضًا ( يا صديقي لا تْبيع مْودتي) ( يا هلا حيِّ الضيوف/ بالرماحِ وْبالسيوفِ) الوزن في جميعها الرمل.
لنأخذ هذا المثال: (خيلِنا تدوس المنايا خيلِنا) ( يا صديقي لا تِبيع مْودتي): ( يا صديقي لا تُنَكِّسْ رايتي)، هنا الرمل واللحن سائغ ، ولنأخذ أيضًا ( يا صديقِيَ لنْ تُنَكَّسَ رايتي)، هنا المتوفر، وهو واضح واللحن سائغ أيضًا.
لنأخذ الآن مجزوء الرمل ( يا هلا حيِّ الضيوف/ بالرماحِ وْبالسيوفِ) ونأخذ كمثال ( طلع البدر علينا) فاللحن سائغ؛ لنغير في تشكيل البيت الشعبي (( يا هلا حيِّ الضيوف/ بالرماحِ وَبالسيوفِ)، لاحظ ( بالرماحِ وَبالسيوف) مجزوء المتوفر ولحنها سائغ مستعذب.
نلفت الانتباه إلى أمر هام، وهو أن الألحان الشعبية هي ألحان العروض الخليلي، حملها الزجل معه منذ الأندلس، وبقيت على بساطتها وحلاوتها، لذا يستعذبها الناس، وبقي الزجال حاضرًا ينشد بين الناس، فمال الناس إلى ألحانه، التي هي ألحان العروض؛ أما الشعر الفصيح، فخلال مسيرته تخلى عن أمرين هامين، هما حضور الشاعر والإنشاد، ولهذا نرى الزجل بسبب الإنشاد والغناء مستحبًّا لدى الجمهور ويجتمع عليه، بينما الشعر الفصيح أصبح يقرأ قراءة، وقل مستمعوه؛ وقد قال الخليل:
"تغن بالشعر إما كنت قائله
إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ"
بقيت أمور قليلة نشير إليها، وهي ربما تندرج ضمن الأخطاء المطبعية، وصدرت عمن طبع المادة، لكن لا يعفى شاعرنا - وهو العارف باللغة - من هذه المسؤولية، ففي المجموعة تثبت همزة القطع في مواضع لا يجب أن تثبت، مثل ( ألغول والعنقاء) وهذا عنوان القصيدة، وقد أثبتت الهمزة في بداية كلمة (الغول)، وتكرر إثباتها في ثنايا القصيدة ( أَلغول والعنقاء وحدتنا)، كذلك، وفي نفس القصيدة أثبتت الهمزة في فعل الأمر ( أُقتل أخاك)، وفعل الأمر لا تثبت فيه الهمزة، بل يستعاض عنها بالضمة (اُقتلْ)، أو في مطلع قصيدة (زاد الغريب) حيث يقول ( أُنشرْ قصائدك الحزينهْ)، أثبتت همزة فعل الأمر.
ختامًا نقول: شاعرنا متألق ومبدع، ويغوص في خضم الإبداع بلا تهيب، وقد كان في مجموعته مخلقًا في فضاءات من الشاعرية العذبة، وملتزمًا بالطريق الأصيل، رغم خروجه، لكنه خروج زاد من العذوبة ولم يهدم، بل أضاف لبنة في جدار الأصالة، ولا نملك إلا أن نحيي شاعرنا، شفيق حبيب، ونتمنى أن يطول نزف يراعه دهورًا







رد مع اقتباس