عرض مشاركة واحدة
قديم 05-16-2011, 12:21 PM رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
أمان
عضو ملكي
 
الصورة الرمزية أمان
إحصائية العضو






 

أمان غير متواجد حالياً

 


افتراضي




وضعت المظروف في جيبي ، وبعد بضع دقائق ، كنت في ساحة القديس فرانسوا في قلب المدينة . فوجدت والدتي بعد بضع لحظات .
قد قلت لها :" لقد إستلمت هذه البرقية " . وسلمتها إليها . فوضعت ذراعها على كتفي دون أن تتفوه بشئ وعدنا إلى الفندق . جلست وراء مكتب من طراز لويس السادس عشر ، أخط رسالة لرئيس الوزراء أعلمه فيها بأنني سوف أعود فوراً إلى الأردن ، وإنني سوف يسعدني ويشرفني أن اخدم بلادي والقضية العربية . وبعد بضعة أيام كنا قد أعددنا حقائبنا ورجعنا إلى عمان .
كانت عودتي إلى الأردن بالطائرة . وكان الجو حاراً بعد ظهر هذا اليوم .
قدم لاستقبالي جمع غفير من الشخصيات . استعرضت حرس الشرف ثم صافحت حوالي العشرين من أعيان البلاد وكبرائها .
وكان بينهم كلوب باشا . قائد الجيش العربي الأردني . لقد أحدث لي هذا الإستقبال الرسمي الودي الحار صدمة نفسيه بمراسيمه الإحتفالية " لقد فكرت بأنني الآن وقد أصبحت ملكاً ، فلسوف لن يقترب الناس مني أبداً بدون هذه المراسم " . وغادرنا المطار الذي كان تحت المراقبة الشديدة . واتخذت السيارة واجهتها نحو عمان . ومنذ أن اجتزنا الضواحي ، صدمت أيضاً وأنا أدخل المدينة فقد شكلت قوات الجيش العربي حاجزاً على طول الشوارع . وفجأة وجدت نفسي وسط جمهور يتأجج حماسه وهو يصيح ويغني ويصرخ :" عاش الحسين " " مرحبا بالحسين " . دون أن يكترث إلا قليلاً بالمراسم وبالمقتديات الدبلوماسية . حتى أن بعضهم حاول إيقاف السيارة بالصعود على مراقيها الجانبية ولما عجزت قوات الجيش عن احتواء الجمهور ، انضمت إلى هذه الجموع الحاشدة المبتهجة: كان الاستقبال خيالياً بضخامته وحرارته . لقد كانت أوروبا وسويسرا الهادئة بعيدتين جداً عن هذه البيوت الحجرية وعن هذه البوادي التي لا نهاية لها. لقد كنت في الطائرة أشعر بأنني وحيد مكدود القوى منخفض المعنويات . ولكن مخاوفي جميعها قد تلاشت وأنا في طريقي إلى القصر. لقد سحرني هذا الجمهور وشدد من عزيمتي استقباله المؤثر . وفي هذا اليوم أدركت أن الشعب لم يكن يعرب عن حماسته وفرحته فحسب، وإنما كان يرغب بشكل خاص أن يفصح عن مشاعر الود والتعاطف، وأن يجزل مظاهر التشجيع لملك شاب في السابعة عشرة من العمر. لقد كانت تجربة تلفت النظر بغرابتها وطرافتها ، تجربة ممزوجة بالفرح والانفعال النفسي البهيج.
كان رئيس الوزراء إلى جانبي هادئاً غير منفعل . ولقد قلت له فبل أن نبلغ القصر:
"لايستطيع المرء أن يحظى بهذا الاستقبال دون أن يعاهد نفسه ويعاهد الله على أن يبذل خير ما في نفسه لكي يستأهل هذه الثقة وهذا الايمان. وإنني لآمل أن يدرك هؤلاء الرجال وهؤلاء النساء أنني سوف أنجز ما تعهدت به" .
لقد أرهقتني رحلتي جسمياً ونفسياً. في هذه الليلة استسلمت للنوم كرجل غمرته السعادة. وفي صباح اليوم التالي نهضت موفور النشاط والقوة ومصمماً على مواجهة أي عائق بحزم وعز وفعالية.
لم أكن أعرف المهام التي ستوكل إلي لأنه كان علي أن أبلغ الثامنة عشرة من العمر ليتسنى لي ممارسة سلطاتي الدستورية. وإلى أن يحين ذلك الوقت كان مجلس الوصاية ينوب عني في هذا الأمر . فقررت أن أنتهز هذه الفرصة لأستزيد من الاطلاع على أمور شعبي وأستكمل السيطرة على الصعوبات الفنية لحياتي الجديدة .
فقمت برحلة استغرقت ثلاثة أسابيع لأستوفي التعرف على رعاياي. فزرت أهم المدن والقرى وقابلت آلاف الأردنيين. وذهبت سواء بالطائرة أبو بالسيارة، إلى أقصى أنحاء البلاد. لقد كان أمراً يبعث على الفرح والابتهاج أن أرى مدى الإخلاص الذي كان يكنه الشعب لي. ولقد حضرت مرة حفلة غداء قدم فيه المنسف في أحد مضارب البدو. كان هنالك مئات من الرجال والنساء يرقصون ويغنون ويطلقون الرصاص في الهواء ابتهاجاً. وقد حملوني على مشاركتهم في احتفالهم . وقفت أمام بيوت الشعر السمراء التي كانت تبرز من الصحراء. وقلت في نفسي عندها بأن البلاد سوف تكون بخير ما وجد في الأردن أمثال هؤلاء الرجال.
إنتهت هذه الرحلة الممتازة ويا للأسف. ماذا أصنع؟ إنني رجل يشعر بالتعب ولايتأثر به . إنني لا أستطيع تحمل البطالة والتفرغ. وهكذا سنحت لي فرصة لتحقيق حلم قديم .
في صباح أحد الأيام زارني خالي الشريف ناصر ورئيس الوزراء بدأنا نتحدث عن العادي من الأمور. وأحسست أنهما يرغبان في مفاتحتي بأمر جدي. قدم لنا الخدم الشاي بالنعناع والتفت خالي عندئذ. وهو رجل محبوب لطيف المعشر نبيه ذو فطانة وقال لي :
" هل تعتقدون يا صاحب الجلالة أنكم إذا ما بقيتم في القصر، ستستفيدون من وقتكم فائدة أكثر؟".
فأجبته: هل لديك اقتراح تعرضه علي.
فرد قائلاً: بالتأكيد: وإنني أعرف بأن والدكم سوف يقدر اقتراحي حق قدره وكذلك جدكم نفسه فقد كان سيتمناه لو بقي على قيد الحياة .
وأدركت فجأة اقتراح خالي وقلبي يثب طرباً. فقلت له : إنك تريد أن تتحدث عن ساند هيرست.
فقال لي مؤكداً: نعم أن أباكم قد دخل هذه الأكاديمية وأنني أذكر قوله بأن ساند هيرست أحسن مدرسة حربية في العالم وخير مكان يختاره الرجل ليتعلم مهنته كملك" .
وتذكرت عندها الكلمات التي قالها لي والدي قبل ذلك ببضع سنين ، عندما كنت ألعب بجنود من الرصاص أمامه.
"لايستطيع المرء القيادة وإدارة الأمور إلا بالنظام. ولا مكان في العالم يحسن تعليم ذلك أفضل من ساند هيرست" .
وهكذا سنحت لي فرصة فريدة استثنائية! إنني أود أن أعطي خير مافي نفسي وأرغب في أن أتقدم أمام شعبي وأنا واثق تمام الثقة بنفسي وأن أرتقي العرش مستوفياً لأفضل الصفات والشروط الممكنة. لقد كنت ملكاً حقاً ولكنني كنت أبغي أيضاً تمديد فترة شباب، يفر مني، بضع سنين أخرى. إن هذه الشهور القليلة في ساند هيرست ستكون بمثابة فسحة من الوقت أو راحة وقتية قبل عقد العمل الطويل الأمد الذي سوف أوقعه مع الأردن عندما أبلغ الثامنة عشرة من العمر .

إتصل كل من رئيس الوزراء والجنرال كلوب بوزير الدفاع البريطاني للتصريح لي بمتابعة تدريب خاص عاجل لمدة ستة أشهر . وهكذا بعد شهر من استلامي برقية فندق بوريفاج استبدلت لقبي كملك بآخر. وهو التلميذ الضابط حسين بالأكاديمية الملكية العسكرية في ساند هيرست. كان ذلك في 19 أيلول (سبتمبر) من عام 1952. وقد ألحقت بسرية أنكيرمان أولد كوليدج غرفة رقم 109.







رد مع اقتباس