عرض مشاركة واحدة
قديم 12-19-2010, 06:02 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
ابن البلد
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية ابن البلد
إحصائية العضو






 

ابن البلد غير متواجد حالياً

 


افتراضي


رجال حول الرسول ( صلّى الله عليه وسلّم )


سلمان الفارسي ( الباحث عن الحقيقة ) 3



وفي معظم هذه السنوات* كانت رايات الإسلام تملأ الأفق* وكانت الكنوز والأموال تحمل إلى المدينة فيئا وجزية* فتورّع الأنس في صورة أعطيت منتظمة* ومرتبات ثابتة.
وكثرت مسؤوليات الحكم على كافة مستوياتها* فكثرت الأعمال والمناصب تبعا لها..
فأين كان سلمان في هذا الخضم..؟ وأين نجده في أيام الرخاء والثراء والنعمة تلك..؟
افتحوا أبصاركم جيدا..
أترون هذا الشيخ المهيب الجالس هناك في الظل يضفر الخوص ويجدله ويصنع منه أوعية ومكاتل..؟
انه سلمان..
انظروه جيدا..
انظروه جيدا في ثوبه القصير الذي انحسر من قصره الشديد إلى ركبته..
انه هو* في جلال مشيبه* وبساطة اهابه.
لقد كان عطاؤه وفيرا.. كان بين أربعة وستة آلاف في العام* بيد أنه كان يوزعه جميعا* ويرفض أن يناله منه درهم واحد* ويقول:
"أشتري خوصا بدرهم* فأعمله* ثم أبيعه بثلاثة دراهم* فأعيد درهما فيه* وأنفق درهما على عيالي* وأتصدّق بالثالث.. ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت"!
ثم ماذا يا أتباع محمد..؟
ثم ماذا يا شرف الإنسانية في كل عصورها ومواطنها..؟؟
لقد كان بعضنا يظن حين يسمع عن تقشف بعض الصحابة وورعهم* مثل أبي بكر الصديق وعمر وأبي ذر وإخوانهم* أن مرجع ذلك كله طبيعة الحياة في الجزيرة العربية حيث يجد العربي متاع نفسه في البساطة..
فها نحن أمام رجل من فارس.. بلاد البذخ والترف والمدنية* ولم يكن من الفقراء بل من صفوة الناس. ما باله يرفض هذا المال والثروة والنعيم* ويصر أن يكتفي في يومه بدرهم يكسبه من عمل يده..؟
ما باله يرفض إمارة ويهرب منها ويقول:
"إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين؛ فافعل..".
ما باله يهرب من الإمارة والمنصب* إلا أن تكون إمارة على سريّة ذاهبة إلى الجهاد.. وألا أن تكون في ظروف لا يصلح لها سواه* فيكره عليها إكراها* ويمضي إليها باكيا وجلا..؟
ثم ما باله حين يلي على الإمارة المفروضة عليه فرضا يأبى أن يأخذ عطاءها الحلال..؟؟
روى هشام عن حسان عن الحسن:
" كان عطاء سلمان خمسة آلاف* وكان على ثلاثين ألفا من الناس يخطب في عباءة يفترش نصفها* ويلبس نصفها.."
"وكان إذا خرج عطاؤه أمضاه* ويأكل من عمل يديه..".
ما باله يصنع كل هذا الصنيع* ويزهد كل ذلك الزهد* وه الفارسي* ابن النعمة* وربيب الحضارة..؟
لنستمع الجواب منه. وهو على فراش الموت. تتهيأ روحه العظيمة للقاء ربها العلي الرحيم.
دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده فبكى سلمان..
قال له سعد:" ما يبكيك يا أبا عبد الله..؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض".
فأجابه سلمان:
" والله ما أبكي جزعا من الموت* ولاحرصا على الدنيا* ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهدا* فقال: ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب* وهاأنذا حولي هذه الأساود"!!
يعني بالأساود الأشياء الكثيرة!
قال سعد فنظرت* فلم أرى حوله الا جفنة ومطهرة* فقلت له: يا أبا عبدالله اعهد إلينا بعهد نأخذه عنك* فقال:
" يا سعد:
اذكر عند الله همّتك إذا هممت..
وعند حكمتك إذا حكمت..
وعند يدك إذا قسمت.."
هذا هو إذن الذي ملأ نفسه غنى* بقدر ما ملأها عزوفا عن الدنيا بأموالها* ومناصبها وجاهها.. عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه والى أصحابه جميعا: ألا يدعو الدنيا تتملكهم* وألا يأخذ أحدهم منها إلا مثل زاد الركب..
ولقد حفظ سلمان العهد ومع هذا فقد هطلت دموعه حين رأى روحه تتهيأ للرحيل* مخافة أن يكون قد جاوز المدى.
ليس حوله إلا جفنة يأكل فيها* ومطهرة يشرب منها ويتوضأ ومع هذا يحسب نفسه مترفا..
ألم أقل لكم انه أشبه الناس بعمر..؟
وفي الأيام التي كان فيها أميرا على المدائن* لم يتغير من حاله شيء. فقد رفض أن يناله من مكافأة الإمارة درهم.. وظل يأكل من عمل الخوص.. ولباسه ليس إلا عباءة تنافس ثوبه القديم في تواضعها..
وذات يوم وهو سائر على الطريق لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل تين وتمر..
كان الحمل يؤد الشامي ويتعبه* فلم يكد يبصر أمامه رجلا يبدو أنه من عامة الناس وفقرائهم* حتى بدا له أن يضع الحمل على كاهله* حتى إذا أبلغه وجهته أعطاه شيئا نظير حمله..
وأشار للرجل فأقبل عليه* وقال له الشامي: احمل عني هذا.. فحمله ومضيا معا.
وإذ هما على الطريق بلغا جماعة من الإنس* فسلم عليهم* فأجابوا واقفين: وعلى الأمير السلام..
وعلى الأمير السلام..؟
أي أمير يعنون..؟!!
هكذا سأل الشامي نفسه..
ولقد زادت دهشته حين رأى بعض هؤلاء يسارع صوب سلمان ليحمل عنه قائلين:
عنك أيها الأمير..!!
فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي* فسقط في يده* وهربت كلمات الاعتذار والأسف من بين شفتيه* واقترب ينتزع الحمل. ولكن سلمان هز رأسه رافضا وهو يقول:
" لا* حتى أبلغك منزلك"..!!
سئل يوما: ما الذي يبغض الإمارة إلى نفسك.؟
فأجاب: " حلاوة رضاعها* ومرارة فطامها"..
ويدخل عليه صاحبه يوما بيته* فإذا هو يعجن* فيسأله:
أين الخادم..؟
فيجيبه قائلا:
" لقد بعثناها في حاجة* فكرهنا أن نجمع عليها عملين.."
وحين نقول بيته فلنذكر تماما* ماذا كان ذاك البيت..؟ فحين همّ سلمان ببناء هذا الذي يسمّى مع التجوّز بيتا* سأل البنّاء: كيف ستبنيه..؟
وكان البنّاء حصيفا ذكيا* يعرف زهد سلمان وورعه.. فأجابه قائلا:" لا تخف.. إنها بناية تستظل بها من الحر* وتسكن فيها من البرد* إذا وقفت فيها أصابت رأسك* وإذا اضطجعت فيها أصابت رجلك"..!
فقال له سلمان: "نعم هكذا فاصنع".
لم يكن هناك من طيبات الحياة الدنيا شيء ما يركن إليه سلمان لحظة* أو تتعلق به نفسه إثارة* إلا شيئا كان يحرص عليه أبلغ الحرص* ولقد ائتمن عليه زوجته* وطلب إليها أن تخفيه في مكان بعيد وأمين.
وفي مرض موته وفي صبيحة اليوم الذي قبض فيه* ناداها:
"هلمي خبيّك التي استخبأتك"..!!
فجاءت بها* وإذا هي صرة مسك* كان قد أصابها يوم فتح "جلولاء" فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته.
ثم دعا بقدح ماء نثر المسك فيه* ثم ماثه بيده* وقال لزوجته:
"انضحيه حولي.. فانه يحصرني الآن خلق من خلق الله* لا يأكلون الطعام* وإنما يحبون الطيب".
فلما فعلت قال لها:" اجفي علي الباب وانزلي".. ففعلت ما أمرها به..
وبعد حين صعدت إليه* فإذا روحه المباركة قد فارقت جسده ودنياه.
قد لحقت بالملأ الأعلى* وصعدت على أجنحة الشوق إليه* إذ كانت على موعد هناك مع الرسول محمد* وصاحبيه أبي بكر وعمر.. ومع ثلة مجيدة من الشهداء والأبرار.
--
لطالما برّح الشوق الظامئ بسلمان..
وآن اليوم أن يرتوي* وينهل..







رد مع اقتباس