القائد السوري سعيد العاص شهيد معركة (حوسان ـ الخضر)
إلى الغرب من مدينة بيت لحم، وعلى مبعدة خمسة كيلومترات، تقوم (قرية الخضر) التي آخذت اسمها من اسم (العبد الصالح) الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في (سورة الكهف) حيث رافقه سيدنا موسى عليه السلام وتعلم منه.. وليس صحيحا ما أوردته بعض الجهات التي تطرقت إلى ذكر تاريخ (قرية الخضر) من أنها أخذت اسمها من دير مسيحي أقامه البريطانيون إبان احتلالهم لفلسطين تخليدا لقديسهم (مار جريس) الذي تروي الميثولوجيا المسيحية أنه قتل التنين.. إلخ، وأنه هو ذاته الخضر الذي يروي العامة معلومات مغلوطة أنه عاش بعد موسى إلى زمن عيسى عليهما السلام ثم زمن محمد صلى الله عليه وسلم، وتنسج حوله الروايات والأساطير أنه قابل فلانا وأعطى فلانا عهدا إلى آخر ما يقضون وينسجون مما يناقض أدلة القرآن والسنة والمعقول وإجماع المحققين، على أن الخضر ليس حيا، ولا علاقة له بـ (مار جريس).
وقرية الخضر هذه كانت مسرحا للمعركة الشهيرة التي نشبت في يومي الخامس والسادس من تشرين الأول/أكتوبر بين المجاهدين الفلسطينيين وعددهم 120 ثائرا، وقوات الاحتلال البريطاني التي قدر عددها بحوالي ثلاثة آلاف جندي تساندهم الآليات والطائرات.. وفي تلك المعركة، استشهد القائد المجاهد العقيد أو العميد (سعيد العاص)، وتم نقل جثمانه من أرض المعركة ليوارى الثرى في يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 1936 في مقبرة الخضر في احتفال شعبي اشترك فيه أهالي القرية ووفود من أهالي (بيت جالا) و(بتير) و(بيت لحم) والقرى المجاورة، ومنعت سلطات الاحتلال البريطاني سكان القدس من المشاركة في التشييع. وقد ابن الشهيد القائد عدة خطباء، وأقيمت صلاة الغائب على روحه الطاهرة في جميع مساجد فلسطين، وكذلك في المسجد الأقصى في القدس عقب صلاة الجمعة التالية.
وقد ذكرت بعض الجهات التي تناولت هذه المعركة أن (سعيد العاص) كان فلسطينيا، وهذا غير صحيح، فالشهيد القائد (سعيد العاص) من أبناء مدينة حماة في وسط سوريا التي تعرف أيضا باسم مدينة أبي الفداء إسماعيل ابن عماد الدين صاحب كتب الجغرافيا والتاريخ المشهورة.
سعيد العاص بلباسه العسكري
ولد عام 1889 لأسرة من آل شهاب تقيم في (حي الحاضر) –وهو حي شعبي-، وقد لقب بـ (العاص) –نسبة إلى نهر العاصي الشهير- إبان خدمته في الجيش العثماني، وغلب اللقب على اسمه الأصلي، فصار معروفا باسم (سعيد العاص)، أو (محمد سعيد العاص) كما كان يوقع مراسلاته أو باسم (أبو سعاد) كما كان يناديه المقربون من إخوانه، وهو لقب كان يرتاح إليه.
وضريح الشهيد القائد (سعيد العاص) يزوره أهل قرية الخضر في الجمع والأعياد منذ سبعين عاما، لقراءة الفاتحة والترحم على روحه الطاهرة.
فما الذي حمل (سعيد العاص) من حماة إلى (حوسان) و(جبال الخضر)؟
للإجابة على السؤال سوف نحاول أن نقرأ بعض الصفحات من سيرة ومسيرة هذا المجاهد الفذ والقائد الكبير الذي جاء من سوريا ليروي بدمه الطاهر ثرى فلسطين –للاستزادة راجع كتاب (فايز سارة) الموسوم (سعيد العاص.. حياته وكفاحه):
"في مدينة حماة المشبعة بالتقاليد العربية الأصيلة، وبخاصة ما هو معروف من أهلها من إباء وأنفة، تلقى (سعيد العاص) تعليمه الابتدائي الذي كان يتضمن مبادئ أساسية في العلوم الدينية ـ الفقهية، ثم علوم اللغة والحساب ومبادئ الجغرافيا، وهي مواد تعطى على مدار ست سنوات، تؤهل الذي يجتازها الحصول على شهادة ابتدائية، ومن ثم الدخول في مرحلة جديدة مدتها ست سنوات أخرى يتلقى الطالب خلالها العلوم العصرية المختلفة واللغات والعلوم العسكرية.
أنهى (سعيد العاص) دراسته الابتدائية في حماة، ثم انتقل في أواخر القرن التاسع عشر إلى دمشق ليتابع دراسته الرشدية العسكرية ممهدا لدخول الكلية الحربية في (الآستانة) حيث تخرج من الأخيرة عام 1907 برتبه ملازم، عين بعدها ضابطا عثمانيا في دمشق.
ولأنه كان من المبرزين في الكلية الحربية ، فقد انتدب عام 1908 للدراسة في مدرسة أركان الحرب في الآستانة لمدة ثلاث سنوات، لتطوير علومه ومعارفه وخبراته العسكرية، لكن نشاطاته السياسية العربية دفعت العثمانيين إلى فصله من مدرسة الأركان في أوائل العام 1910 وألحقته بكتيبة الرماة، حيث خضع لدورة تدريبية قبل أن يتم إرساله مع فرقته إلى المقاطعات الأوروبية من الدول العثمانية، لقمع انتفاضات الشعوب البلقانية (ألبانيا والجبل الأسود وبلغاريا وسالونيك)، ووقع اسيرا في قبضة جيش سالونيك لكنه استطاع الإفلات والعودة إلى الآستانة بعد فترة قليلة من أسره، ليعود ويشارك في معارك البلقان وأبرزها معركة (سركوبري) قبل أن يعود ويستقر في الآستانة حيث عين قائدا لمنطقة الحدود في (طونجة) عندما كان الجيش العثماني يزحف على (أدرنه)، ثم جرى تعيينه مأمورا في المهمات الحربية بدمشق عام 1913 وفي مهمة منتدب لنقل الديناميت إلى الآستانة قبل أن يتم الزج به في ميدان القتال في (جناق قلعة) بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914.
وقد اكتسب سعيد العاص بين أعوام 1907 و1914 خبرة عسكرية ثمينة، إضافة إلى إطلاعه على أحوال سورية والأناضول وبلدان البلقان، يضاف إلى ذلك المعارف السياسية التي اكتسبها من خلال انتسابه إلى (حزب العهد)، وهو تنظيم سري عربي تم تأسيسه في تشرين الأول/أكتوبر عام 1913 على يد المقدم (عزيز المصري)، واقتصرت العضوية فيه على الضباط العرب العاملين في الجيش العثماني، ومن الضباط العرب الذين انتسبوا لحزب العهد هذا إلى جانب عزيز المصري-مؤسس الحزب- وسعيد العاص.. رشيد بقدونس، وأحمد أبو محي الدين شعبان، وطه الهاشمي، وفوزي القاوقجي وغيرهم..
وشكت السلطات العثمانية في ميول واتجاهات سعيد العاص، وقامت باعتقاله والتحقيق معه في الديوان العرفي المخيف، وصدر الحكم بإعدامه، لكن هذا الحكم تم تبديله بالسجن لمدة سنة ونصف لأن العاص ظل صامدا طيلة فترة التحقيق، وقد أمضى مدة محكوميته في سجني حلب، وعاليه، وبعد الإفراج عنه تم نفيه إلى (جوروم) التي تعتبر باب منطقة البحر الأسود المفتوح على منطقة الأناضول، وبقي هناك حتى خروج الجيش العثماني من سوريا في خريف عام 1918.
الجهاد ضد الفرنسيين:
عاد سعيد العاص إلى دمشق في أواخر تلك السنة ليبدأ مسيرة جهاد ضد الفرنسيين الذين احتلوا سوريا، فشارك أولا في معارك (جبل صهيون)، جنبا إلى جنب مع المجاهدين عمر البيطار والشيخ عز الدين القسام –عام 1920-، ثم انتقل للقتال إلى جانب الشيخ صالح العلي في جبال العلويين، وحضر آخر المعارك التي جرت على أبواب (العمرانية).
وبعد نفاذ ذخيرة الثوار، عاد إلى مدينة –حماة- متخفيا، وبينما كان يستعد للالتحاق بالثوار في جبل الزاوية بقيادة إبراهيم هنانو، داهم المحتلون الفرنسيون بيته –بناء على وشاية رخيصة- وزجوا به في السجن، ومرة أخرى صمد العاص للتحقيق رافضا الكشف عن دوره في ثورتي جبل صهيون وجبال العلويين، فتم الإفراج عنه بعد شهرين.
العاص وعدد من رفاقه خلال الثورة السورية
في عام 1921 –بعد الإفراج عنه- غادر إلى الأردن للالتحاق بالقوات التي كان ينظمها (الأمير عبد الله بن الحسين) تحت شعار (طرد الفرنسيين من سوريا وإعادة تاج الملك فيصل المخلوع).
وقد تم تعين سعيد العاص قائدا للسرية الاحتياطية، ثم أمينا للسر العام للأمن العام، وبعدها عين قائدا لمفرزة (كاف)، ووكيلا لمدير التعليم العام، ثم مديرا عاما لشرطة عمان، ثم تم الزج به في صفوف (متطوعة الجيش الهاشمي) في الحجاز –عام 1923- تحت إمرة الملك علي بن الحسين) الذي عينه قائدا لـ (لواء النصر)، ثم قائدا لخط دفاع جده الشهير، فقد استطاع العاص أن يصمد تسعة أشهر مع ألف مقاتل في مواجهة أكثر من ثلاثين ألف محارب سعودي، وتم ترفيعه بعدها إلى رتبة (عقيد)، وأوكلت إليه مهمة قيادة القوات الأردنية في (العقبة ومعان)، وحين تمنع تم نقله إلى (ينبع) ومنها إلى عمان.
وتزوج سعيد العاص في الأردن، ورزق بابنته الوحيدة (سعاد)، وكان من المتوقع أن يبحث عن راحته الشخصية بعد أن خاض عشرات المعارك في بلغاريا ويوغسلافيا واليونان وألبانيا وسوريا والأردن والحجاز وانهكته الجراح، خصوصا وأنه بات رب أسرة مؤلفة من زوجة وابنه، لكن سعيد العاص سارع في تشرين الأول/أكتوبر 1925 ليلتحق بقوافل المجاهدين الذين انخرطوا في صفوف الثورة السورية الكبرى التي اندلعت في ذلك العام، وسرعان ما أصبح العاص أحد قادة الثورة الميدانيين، سواء في معارك جبل العرب في مواجهة الحملة الكبيرة التي قادها (الجنرال غاملان)، أو معارك حمص وعيون العلق والنبك وعين ترما ومعربا –التي جرج فيها- ومناطق الهرمل وعلى أبواب طرابلس- شمال لبنان-.
ويذكر بعض الدارسين ليوميات الثورة السورية الكبرى أن سعيد العاص وعز الدين الجزائري وأبي خالد نجيب.. خرجوا على رأس حملات الثورة نحو دمشق، ودخلوا الغوطة في أواخر نيسان/أبريل 1927، وكانت تلك أخر معارك الثورة، بدأ بعدها الانكفاء الجزئي في مواقعها الرئيسية، كما كان بين قلة من رجال الثورة على رأسهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الذي أجروا في منطقة الأزرق بالأردن تقييما عاما للوضع والأسباب التي أدت إلى انحسار الثورة في بعض مواقعها، وتقرر في هذه الاجتماعات تسيير حملة جديدة من الأزرق إلى دمشق مرورا بجبل العرب، لكن مثل هذه الحملة لم تتحقق لعدم توفر الامكانات.
من سورية إلى فلسطين:
أقام سعيد العاص في الأردن مسكونا بها جس تجديد الثورة في سورية على الرغم من حياة البؤس المادي والمعنوي، والوضع (الأمني) المفروض عليه، وزاد بؤس القائد العاص وفاة زوجته مخلفة ابنته الوحيدة (سعاد)، وقدر العاص أن الحل هو في الهجرة إلى بلدان الاغتراب لجمع ما يمكن جمعه من تبرعات وإعانات المغتربين السوريين لاستئناف الثورة -وهذه الأفكار دونها في رسائله إلى بعض إخوانه من المجاهدين ومنهم نزيه مؤيد العظم-.
ولأن العاص لم يعتد حياة الدعة فقد قام بزيارة مدن وبعض قرى فلسطين مرارا، واجتمع مع الشيخ عزالدين القسام الذي كان يعد لاطلاق الثورة من حيفا؛ ولدي العديد من الشهادات عن زيارات العاص لفلسطين، لكنني سأكتفي بروايتين:
العاص ونزيه مؤيد العظم
الأولى ذكرها محمد سعيد الزعيم، وهو من ثوار حماة..
يقول محمد سعيد الزعيم: "كنت في حيفا عام 1931، وهممت للقاء سعيد العاص الضابط العربي الفيصلي والثائر السوري الثوري الذي اقض مضاجع الفرنسيين في (أكروم) و(الضنية) ومشارف طرابلس.. وكنت لا أعرفه إلا من صوره في الصحف، وكان يبادلني الكتابة من عمان لحلب بتوقيع (أبو سعاد).
وجاء إلي ليلا، وسلمنا وتبادلنا القبلات، وإذ بي أرى سعيد العاص ونحن في كانون الأول/ديسمبر دون معطف، وقميصه ممزق في العنق.. وراح معي إلى الفندق الذي حللت فيه يستعيد ذكرياته عن الشهباء (حلب) ومغانيها وأيامها وأمجادها، فحدثته عن نهضتها الصناعية التقليدية، وأن بها صناعة نسيج حرير طبيعي ممتازة، وقصدي أن أهدي إليه قميصا دون أن تتأثر معنوياته، وأريته القميص من شغل (محفل) جديدا يلمع، وسألته إن كان يقبله ذكرى لحلب التي أحبها وقضى فيها أياما من عهد الشباب، ولأنها موطن الزعيم هنانو قائد المجاهدين الأبرار... فأجاب بكل انشراح: ويستر صدري أيضاّ.. فجعلت القميص قميصين".
الرواية الثانية أنقلها من مذكرات المجاهد والشاعر الكبير برهان الدين العبوشي الذي توفي منسيا في بغداد في عشرية التسعينيات الماضية.
كتب العبوشي في مذكراته (من السفح إلى الوادي.. ألبي صوت أجدادي): "على إثرالانكفاء الجزئي للثورة السورية ضد الفرنسيين، التجأ كثير من المجاهدين السوريين إلى وطنهم الثاني (فلسطين)، أذكر منهم (نبيه العظمة) الذي سجن معنا في معتقل (صرفند) و(شكري القوتلي) الذي نصبه شعبة فيما بعد رئيسا للجمهورية، و(سعيد العاص) القائد العربي المغوار الذي جاهد في جبال الخليل.. واذكر أنني صادفته يوما في باب الخليل في القدس وهو في ثوب يرثى له، فحزنت جدا، ثم طلب أن أساعده بقرش ونصف قرش ليشتري (سكاير)، فصعقت وتمنيت أن يكون لدي مال الدنيا لأقيل به حاجة هذا المجاهد الكريم، وطفرت من عيني دمعة إذ أدركت أن نتيجة المؤمنين المجاهدين في بلاد العرب الذل والفاقة وتكفف الناس.. على أن هذا البطل استشهد بعد ذلك في معركة جبال الخليل قرب (الخضر)، فختم حياته بخاتمة طالما تمنيتها، ورثيته من المعتقل سنة 1936 بقصيدة خاطبت فيها ابنته (سعاد) اليتيمة مطلعها:
أمك الشعب والشباب أخوك يا ابنه العاص والبلاد ذووك
وقد نشرتها الصحف ويجدها القارئ في ديواني (جبل النار)، كما تذكرت نكبته ونكبة أمثاله من المؤمنين الصابرين، أضفتها إلى مصيبة إخواني لاجئي عرب فلسطين وما يلاقونه من حرمان، وما يسمعونه من سباب من الشعوبيين ومن لف لفهم، أجل، تهون علي المصيبة إذا اعتبرت بمصير (سعيد العاص) وإخوانه الأبرار".
سعيد العاص في جبال الخليل:
دخل سعيد العاص إلى فلسطين عدة مرات وتنقل في ربوعها، آخرها عندما ترأس وفد الأردن الذي لبى نداء زعماء فلسطين في 26 كانون الثاني/يناير 1936 لحضور اجتماع تضامني في نابلس لدعم إضراب دمشق الستيني ضد الانتداب الفرنسي، وقد تمخض هذا الاجتماع عن إرسال برقيات تضامنية مع كفاح الشعب السوري، وأرسلت برقيات إلى عصبة الأمم والمندوب السامي الفرنسي في بيروت، والقيام بحملة تبرعات لصالح المتضررين من إضراب دمشق. كما تم إعلان الإضراب العام في فلسطين دعما لمطالب السوريين.
وفي شباط/فبراير 1936 انطلقت شرارة الثورة في فلسطين. وفي حزيران/يونيو من نفس العام ابتدأ الثوار العرب من سوريا والأردن ولبنان والعراق بعبور نهر الأردن والدخول إلى فلسطين، ومن بينهم الشيخ محمد الأشمر الذي نشط في المثلث وخاصة في طولكرم ورشيد طليع وأحمد مريود وفؤاد سليم والقائد المجاهد سعيد العاص، الذي دخل على رأس (قوات الجهاد المقدس) التي أعلن عن تشكليها مع انطلاقة الثورة، وعين العاص قائدا لها، كما أصبح القائد المجاهد عبد القادر الحسيني نائبا له، وخاضت هذه القوات العديد من المعارك في المنطقة الوسطى من فلسطين من أبرزها معركة كبيرة في أيلول/سبتمبر بالقرب من مدينة صفد ضد قوات الاحتلال البريطاني يزيد عددها عن ألف وخمسمائة مقاتل، وكانت النتيجة مقتل أكثر من أربعين جنديا بريطانيا، وغنم المجاهدون كمية كبيرة من سلاح العدو وعتاده، واستشهد ثلاثة من المجاهدين العرب.
سعيد العاص شهيدا:
ثم كانت المعركة الأخيرة التي بذل فيها سعيد العاص حياته *وكانت معركة غير متكافئة، حيث قامت قوة من الجند البريطاني في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر 1936 تقدر بحوالي ثلاثة آلاف جندي، بتطويق منطقة واسعة من الجبال والأراضي الواقعة بين القدس والخليل، تبتدئ حدودها من خطوط السكة الحديدية وتنتهي إلى سلسلة من الجبال الداخلية.
وكانت المنطقة المحاصرة تضم 120 ثائرا على رأسهم سعيد العاص ونائبه عبد القادر الحسيني، وبعد عملية استكشاف من الطائرات، تقدمت قوة من الجنود يقدر عددها بـ300 جندي نحو بعض استحكامات الثوار في أعالي الجبال، ونقلوا تمركزهم من الطريق العمومية إلى الجبال بحيث صاروا على مقربة من مكان الثوار.واتخذ القائد العاص قرارا بالمواجهة كما فعل رفيقه في الجهاد عز الدين القسام الذي سبقه إلى الشهادة قبل ما يقرب من عام* ووزع رجاله على أماكن مختلفة لمواجهة الحركة التطويقية.
سعيد العاص
وفي يوم السادس من تشرين الأول/أكتوبر 1936 اتخذ قرارا بانسحاب غالبية الرجال على أن يقوم بتغطية انسحابهم، ولم يبق معه إلا 10-15 من رجاله الأشداء الذي أبوا مفارقته، وظلوا ساهرين خشية من مفاجأة العدو، ثم برز الجند ونشبت المعركة وجها لوجه واحتدمت، وكان سعيد العاص واقفا يطلق الرصاص ويوجه المجموعة عندما أصيب بثلاث رصاصات أنحاء مختلفة من جسمه، ولكنه ظل واقفا رابط الجأش مستمرا في توجيه رجاله إلى أن أصابته رصاصة رابعة في رأسه، فسقط شهيد الدفاع عن فلسطين، كما أصيب مساعده القائد عبد القادر كاظم الحسيني بطعنة حربة في أسفل ظهره. وسارع الثوار إلى نقل وإخفاء جثمان قائدهم، ليوارى الثرى في قرية( الخضر) في احتفال جماهيري حاشد على النحو الذي أسلفنا.
مدفن الشهيد سعيد العاص
مدفن الشهيد سعيد العاص
وأورد راديو لندن نبأ مصرع سعيد العاص في نشراته الإخبارية، وأطلق عليه لقب العدو رقم(2)–لأن فوزي القاوقجي كان يحتل الرقم واحد-.
وبعد ثلاثة أيام من استشهاد القائد سعيد العاص، نشرت اللجنة العربية العليا –في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر- بيانات موقعة من ملوك العرب في ذلك الحين، وفيها (دعوة عرب فلسطين إلى أن يكفوا عن إضرابهم واضطرابهم)، ووعد منهم بمساعدة القضية الفلسطينية وأمل بإنصاف بريطانيا..
وبقي اسم سعيد العاص في ذاكرة وقلوب الفلسطينيين والسوريين والعرب كما في قلوبهم أيضا.
مدفن الشهيد سعيد العاص
مدفن الشهيد سعيد العاص
ومن المؤسف أن القائد الشهيد لم يدون ذكرياته عن الثورة الفلسطينية عام 1936 وحواراته مع قادتها الميدانيين وعلى رأسهم الشيخ الشهيد عز الدين القسام ؛وترك فقط (صفحة من الأيام الحمراء) صفحة الأعمال الحربية بعد حركة التطويق في الثورة السورية -ووقعها هكذا:قائد المنطقة الشمالية بالثورة السورية الزعيم العسكري محمد سعيد العاص..