اختراع العلاج في مستشفيات غزّة
ديالا الريماوي
حصار ودمار فرض على تلك البقعة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 360 كيلومتراً مربعاً، حيث الكثافة السكانية العالية البالغة مليوني نسمة، تتزاوج مع حصارٍ فرضه رابع أكبر جيش في العالم منذ سبع سنوات على قطاع غزّة. كل القطاعات أصبحت تعاني من أوضاع صعبة، وبشكل خاص القطاع الصحيّ الذي يعتبر من أهم القطاعات الحيوية في الحرب التي تلي حصاراً.
يشرح مدير «مستشفى الباطنة» في «مجمع الشفاء الطبي» د.حسن خلف أن الجيش الاسرائيلي يستهدف الأطفال والمدنيين لغياب أهدافٍ «حقيقية» أو عسكرية لدى الاحتلال، ما ساهم في استنزاف مقدرات وزارة الصحة الفلسطينية عند سقوط هذا العدد الكبير من الجرحى (13 مستشفى تابعاً لها في القطاع). ويلفت إلى إصابات بليغة تحتاج إلى عناية فائقة خاصة، خاصةً تلك التي يتم انتشالها من تحت أنقاض المنازل.
كما أن الأطفال هم الهدف الرئيسي لطائرات الاحتلال منذ اليوم الأول للعدوان: واقعٌ أكّده عدّة أطباء في قطاع غزّة لـ«السفير». وينقل د. مدحت عباس مقولةً أصبح مضمونها رائجاً اليوم: «إذا أردت أن تعيش، إبعد أيّ طفل عنك».
مستشفيات تحت النيران
لم تكن المستشفيات هدفاً ممنوعاً على طائرات الاحتلال ومدفعيته، على الرغم من مخالفة ذلك لكل القوانين والاتفاقيات الدولية. إذ استهدف الاحتلال الاسرائيلي خلال عدوانه على غزّة عدة مستشفيات بشكل مباشر، منها: مستشفى شهداء الأقصى، مستشفى بيت حانون، مستشفى الدرة، عيادات مستشفى الشفاء، مستشفى الوفاء، وغيرها.
وأكد المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة د. أشرف القدرة لـ«السفير» إصابة 17 موظفاً من الطواقم الطبية فقط في الأيام الأولى للعدوان، واستشهد منهم ثلاثة: طبيبان صيادلة، والثالث مسعف. وأشار إلى استهداف 25 مركزاً صحيّاً في كل محافظات قطاع غزّة، بالإضافة إلى 24 سيارة إسعاف لا سيما تلك العاملة تحت مظلة «الهلال الأحمر الفلسطيني» و«الدفاع المدني» ووزارة الصحّة.
الدفن المؤقت
لم تكتظ المستشفيات بالجرحى فحسب، بل صارت ثلاجات الموتى تؤدي دور مقابر مؤقتة للشهداء الذين لم يدفنوا بعد، خاصة أن عدداً منهم لم تعلم عائلته باستشهاده، وعدداً آخر استشهد مع العائلة بأكلمها، أضف إلى ذلك صعوبة التعرّف إلى ملامح الشهيد/ة. فامتلأت ثلاجات الموتى، خاصة في «مستشفى الشفاء» الأكبر في قطاع غزة، وأصبحت الطواقم الطبية لا تعلم أين تنقل جثامين الشهداء الذين يصلونها تباعاً. فما كان منها إلا أن اتخذت من أرضيات المستشفيات مكاناً لتلك الجثامين حتى تأتي عائلاتهم ويتم دفنهم.
وتمت مناشدة الأهالي التوجه الى المستشفيات والتعرف على ابنائهم ودفنهم، وتمت الاستجابة لنداءات الأطباء. فقامت العائلات بدفن جثامين الشهداء في المناطق القريبة من «مستشفى الشفاء»، رغم أنهم يقطنون في المناطق الشرقية. فالعدوان لم يسمح لهم بدفن جثامين أبنائهم في تلك المناطق التي تعتبر خطيرة. لكن د. القدرة يخشى من تجدّد تلك الكارثة عند انتشال جثامين الشهداء من المناطق التي ارتكب فيها الاحتلال مجازر بشعة بحق ساكنيها، ومنعت الطواقم الطبية من الوصول اليها.
المستشفيات كملاجئ
لجأ آلاف الأفراد إلى مستشفيات غزة: مشفى الشفاء، بيت حانون، مستشفى غزة الأوروبي وغيرها من المستشفيات القريبة من الحدود الشرقية، واتخذوا منها ملجأ، ظناً منهم أنها ستكون المكان الأكثر أماناً لهم. إلا أن قصف الاحتلال للمستشفيات أوقع عدداً من الشهداء في صفوف المواطنين النازحين الذي كانوا متواجدين في باحات المستشفيات وداخل أقسامها. إلى ذلك، يشرح القدرة أن «هذا التواجد أدّى أيضاً إلى تعطيل عمل الطواقم الطبية وحركة سيارات الاسعاف، خاصة أن الناس لديهم عواطف وفضول عند وصول سيارات الاسعاف محملة بالجرحى أو الشهداء. تجد العشرات يتجمهرون على مدخل الاستقبال، يحاصرون سيارة الإسعاف للتعرّف إلى الشخص المصاب أو الشهيد خوفاً من أن يكون أحد أقاربهم».
أزمة المستشفيات: كارثة مستدامة
مع بدء الحرب على القطاع، بدأ الأطباء في مستشفيات غزّة العمل بنظام القسمين: كل قسمٍ يعمل 24 ساعة، بحيث يتناوب القسمان من أجل القدرة على مواصلة العمل والحصول على قسط من الراحة.
وقد قصدت غزّة وفود طبية من الخارج، لتقديم المساعدة. وأوضح د. خلف أن «حوالي عشرة أطباء جاءوا عن طريق معبر «ايرز» الإسرائيلي، بحكم إغلاق مصر لمعبر رفح البري إقفالاً تاماً». ويروي: «من بين الأطباء الوافدين، زارنا طبيبان من النرويج هما إيريك فوسي ومادس جيلبرت. كذلك، حضر الدكتور غسان أبو ستة من لبنان.. مع العلم أن هؤلاء الأطباء وسواهم تطوعوا للعمل في مستشفيات غزة خلال الحروب الثلاث التي شنتها إسرائيل».
أزمة مستشفيات غزة ليست وليدة اللحظة. فمنذ بدء الحصار، تواجه مستشفيات القطاع أزمة حقيقية، عمّقها إغلاق مصر لمعبر رفح منذ عامٍ، ما جعل القطاع يعاني من حصار مطبق. وقبل العدوان، ناشدت وزارة الصحة المؤسسات الدولية لتناشد بدورها السلطات المصرية فتح معبر رفح البري، إذ كانت تدخل لقطاع غزة عبر معبر رفح نسبة 30 في المئة من الأدوية والمستهلكات الطبية.
قبل بدء العدوان الإسرائيلي بما يقارب العشرة أيام، ومع صعود التوتر السياسي والأمني، أوقفت وزارة الصحة العمليات المجدولة (كعملية المرارة)، إذ كانت تتوقع أن يشنّ الاحتلال هجوماً على قطاع غزة، وذلك من أجل توفير الأدوية والمستلزمات الطبية لحالات الطوارئ. ولكن، في هذا السياق، أشار مدير عام «مستشفى شهداء الأقصى» د. مدحت عباس إلى أن «المؤسسات الصحية في قطاع غزة كانت تعاني نقصاً بنسبة 55 في المئة من المستهلكات الطبية. وعندما بدأت الحرب على غزة، تفاقم الأمر، وما كان مخزّناً من أدوية ومستلزمات طبية قليل جداً».
ويشرح القدرة: «عندما بدأت المعركة، أعلنت الوزارة حالة الطوارئ في كل مؤسساتها، ورفعت جدول الإجازات للطواقم الطبية، واعتمدت المستوى «ب» في تجميع المولدات الكهربائية لأن الكهرباء تنقطع بشكل مستمر في قطاع غزة. ولكن، نتيجة قصف طائرات الاحتلال لمحطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع، أصبح الأمر ينذر بكارثة حقيقية ستؤدي إلى توقف المستشفيات عن العمل». ويكمل: «تلقيّنا كميات من الأدوية والمستهلكات الطبية في الأيام الأولى من العدوان من وزارة الصحة في رام الله. ولكنها كانت كميات لا ترقى إلى حل الأزمة، خاصة أن السلطات المصرية تمتنع عن فتح معبر رفح. استهلكنا هذه الكميات خلال الفترة الأولى من العدوان، لكن بعدما توّسع الاحتلال في رقعة استهدافه البري، بدأت الإصابات تصل بالمئات، بما يتخطى القدرة الاستيعابية والقدرات الدوائية للمستشفيات. نحن أمام مشكلة مؤكدة سواء على المستوى الدوائي أو اللوجستي أو على مستوى المعابر».
المسعفون: شهداء مع وقف التنفيذ
مشاكل ومخاطر عديدة واجهت رجال الاسعاف خلال فترة الحرب، بطبيعة الحال. ومن بينها تبرز مشكلة غير بديهية، قوامها البنية التحتية المدمرة التي تعيق وصولهم إلى العديد من المناطق. فتتوقف سيارات الإسعاف عند حدود دمار الشوارع، ويضطر المسعفون إلى قطع المسافة المتبقية إلى البيوت المدمرة والجرحى مشياً على الأقدام. ما شكّل خطراً حقيقياً على حياتهم وحياة الجرحى كذلك. فهم في أكثر من مرة كانوا هدفاً لنيران الاحتلال وقذائفه. إلى ذلك، يضاف عدم توفر المحروقات (كالسولار)، وقلة الإرشاد.
المشاهد التي ينقلها المسعفون، وتجاربهم اليومية تبقى عصيّةً على النشر لصعوبتها على النفس الحيّة. فكيف يستمرون؟ يروي المسعف حسين لـ«السفير» تجربةً «من الظروف الصعبة التي عشناها»، حصلت «بعد حوالي سبعة أيام من ارتكاب مجزرة حي الشجاعية الأولى». حينها، «تمكّنا من الوصول إلى المناطق المنكوبة. كانت رائحة الموت تفوح في المكان، والجثث قد بدأت بالتحلل. لكن، رغم قساوة المناظر، ما زلنا مستمرين في عملنا، فبشاعة الجريمة ليست جديدة علينا، كما أننا استطعنا أن نحقّق انجازات خلال فترة الحرب نفتخر بها، وتعيننا على الاستمرار إلى الغد». من الإنجازات، يختار أن يخبر عن نقل «حوالي 20-30 حالة ولادة من منطقة الشجاعية وحدها إلى المستشفيات، واستطعنا في بعض الحالات أن ننجز الولادة في موقع وجود الأم».
يشار إلى أن حوالي عشرين مسعفاً استشهدوا منذ بداية العدوان، وذلك نتيجة الاستهداف المباشر لهم. عبد الرازق البلتاجي هو واحد من المسعفين المتطوعين الذين استشهدوا خلال الحرب. لم يكن البلتاجي يخشى طائرات الاحتلال أو قذائف المدفعية، فكان ذلك المسعف المقدام الذي ما أن يسمع عن تعرّض منطقة للقصف حتى ينطلق بسيارته من دون أن ينتظر تكليفاً من أحد أو حتى التنسيق مع «الهلال الأحمر». وكان أيضاً يعتبر صديق الصحافيين، فيصطحبهم معه لتوثيق الجرائم وحجم الدمار في غزة.
لبّى البلتاجي نداء الاستغاثة عندما سمع أن سوق الشجاعية يتعرض للقصف. انطلق من دون أن يعلم بأنه سيبدّل في رحلته هذه الأدوار بين المسعف والشهيد. انتظرت طائرات الاحتلال وصول سيارة الاسعاف وتجمهر المواطنين حولها، لتطلق صاروخها اتجاه سيارة الإسعاف بشكل مباشر. انتهت حياة عبد الرازق، شهيداً يحاول أن ينقذ جرحى.