عينان تائهتان في الألوان.
خضراوان قبل العشب.
زرقاوان قبل الفجر.
تقتبسان لونَ الماء،
ثم تُصوّبان إلى البحيرةِ نظرة عسلية،
فيصيرُ لونُ الماء أخضر..
لا تقولان الحقيقة.
تَكْذبان على المصادر والمشاعر.
تنظران إلى الرماديّ الحزين،
وتُخفيان صفاته.
وتُهيّجان الظلِّ بين الليلكيّ
وما يشعّ من البنفسجِ في التباسِ الفرق.
تَمتلئان بالتأويل، ثم تحيّران اللون: هل هو
لازورديّ أم اختلطَ الزُمُرّدُ بالزبرجدِ والتركواز
المُصَفّى؟
تَكبران وتَصغران كما المشاعر..
تكبران إذا النجومُ تنَزّهتْ فوق السطوح.
وتصغران على سريرِ الحبّ.
تنفتحان كي تستقبلا حلماً ترقرقَ في جفونِ الليل.
تنغلقان كي تستقبلا عسلاً تدفّقَ من قفيرِ النحل.
تنطفئان كاللاشيء شعرياً، غموضاً عاطفياً
يُشعلُ الغابات بالإقمار. ثم تعذّبان الظلّ:
هل يخضوضرُ الزيتيُّ والكحليّ فيَّ أنا الرماديَّ المحايد؟
تنظران إلى الفراغ. وتكحّلان بنظرةٍ لوزيةٍ طوقَ الحمامة.
تفتحان مراوحَ الخُيلاء للطاووس في إحدى الحدائق.
ترفعان الحَوْر والصفصاف أعلى ثم أعلى.
تهربان من المرايا، فـــهي أضيق منهما.
وهما هما في الضوء
تلتفتان للاشيء حولهما فينهضُ، ثم يركضُ
لاهثاً، وهما هما في الليل مرآتان للمجهول
من قدري. أرى، أو لا أرى، ماذا يعدّ الليلُ
لي من رحلةٍ جويةٍ - بحريّة. وأنا أمامهما
أنا أو لا أنا. عينان صافيتان، غائمتان،
صادقتان، كاذبتان عيناها. ولكن، منْ هي؟
تميز محمود درويش باسلوبه اللامع في الالقاء كما تميز شعره تماما فقد تجد بعضا من القصائد المكتوبة التي تستمتع بمطالعتها لكنك ستستمتع اكثر عند الاستماع لمحمود درويش بشخصه ولا تستغرب لو فهمت القصيدة بطريقة مختلفة في كل مرة تسمعها لو قام الراحل بالتشديد او الارخاء على حرف فهنا يكمن التمايز بين الشعراء و هناك العديد من الكتب و الدراسات و الابحات التي تناولت مواضيع الايقاع الصوتي في قصيدة محمود درويش و اذكر منها:
- كتاب هكذا تكلم محمود درويش - للدكتور عبد الاله بلقزيز
- دراسة التصوير والمجاز والإيقاع في شعر محمود درويش - مزن اتاسي
و غيرها.
فالنص الشعري الدرويشي... نص وثيقة بأكثر من معنى، وفي أكثر من اتجاه في مرآته تملك أن تقرأ تفاصيل فكره كبرى في تجربة شعب هو شعبه. و قصيدة درويش لسان الجماعة ومدونة يومياتها... هي ضمير الناس، ملاذهم من الضياع يأويهم، هي نفيرهم، يبث العزيمة فيهم. و تاريخ قصيدة محمود، هو من وجه آخر، تاريخ أمكنتها، ولدت القصيدة في مكان، ونمت في مكان، وأينعت في أمكنة.
ومن باب تعزية النفس أن يقول المرء، إن محمود درويش لم يرحل لأن تراثه باق فينا، وفي الثقافة العربية؛ فلقد كان رحيله فاجعة، للثقافة والقصيدة، لا توصف، وهي (فاجعة) لا توصف لأن رحيله حصل في لحظة التألق الاستثنائي(...)
برحيل حفيد المتنبي، تدخل القصيدة العربية فترة من الحداد، ليس يُعلم متى تنتهي، فالرجل ما كان شاعرا كبيرا فحسب؛ كان الشاعر الذي زوج المستحيل بالممكن في الشعر، فأنجب لغة شعرية ممكنة، لكنها تقارب المستحيل.
محمود، «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»: أن نقرأ شعرك.
سيبقى درويش ال‘‘غائب‘‘ ال‘‘حاضر‘‘ أبدا، مثل ... أثر الفراشة.
للعدوّ الذي يشرب الشاي في كوخنا فرسٌ في الدخان.
وبنتٌ لها حاجبان كثيفان.
عينان بنّيتان.
وشعرٌ طويلٌ كليل الأغاني على الكتفين.
وصورتها لا تفارقه كلّما جاءنا يطلب الشاي.
لكنّه لا يحدّثنا عن مشاغلها في المساء،
وعن فرسٍ تركته الأغاني على قمّة التلّ...
... في كوخنا يستريح العدوّ من البندقيّة،
يتركها فوق كرسيّ جدّي.
ويأكل من خبزنا مثلما يفعل الضيف.
يغفو قليلاً على مقعد الخيزران.
ويحنو على فرو قطّتنا.
ويقول لنا دائمًا:
لا تلوموا الضحيّة!
نسأله: من هي ؟
فيقول: دمٌ لا يجفّفه الليل.../
... تلمع أزرار سترته عندما يبتعد
عم مساءً! وسلّم على بئرنا
وعلى جهة التين. وامش الهوينى على
ظلّنا في حقول الشعير. وسلّم على سرونا
في الأعالي. ولا تنس بوّابة البيت مفتوحةً
في الليالي. ولا تنس خوف الحصان من الطائرات،
وسلّم علينا، هناك إذا اتّسع الوقت.../
هذا الكلام الذي كان في ودّنا
أن نقول على الباب... يسمعه جيّدًا
جيّدًا، ويخبّئه في السّعال السريع
ويلقي به جانبًا.
فلماذا يزور الضحيّة كلّ مساءٍ ؟
ويحفظ أمثالنا مثلنا،
ويعيد أناشيدنا ذاتها،
عن مواعيدنا ذاتها في المكان المقدّس ؟
لولا المسدس
لاختلط الناي في الناي ...
... لن تنتهي الحرب ما دامت الأرض فينا تدور على نفسها!
فلنكن طيّبين إذًا. كان يسألنا أن نكون هنا طيّبين.
ويقرأ شعرًا لطيّار (ييتس):
أنا لا أحبّ الذين أدافع عنهم،
كما أنني لا أعادي الذين أحاربهم...
ثم يخرج من كوخنا الخشبيّ،
ويمشي ثمانين مترًا إلى
بيتنا الحجريّ هناك على طرف السّهل.../
سلّم على بيتنا يا غريب.
فناجين قهوتنا لا تزال على حالها.
هل تشمّ أصابعنا فوقها ؟
هل تقول لبنتك ذات الجديلة والحاجبين الكثيفين إنّ لها صاحبًا غائبًا،
يتمنّى زيارتها، لا لشيءٍ...
ولكن ليدخل مرآتها ويرى سرّه:
كيف كانت تتابع من بعده عمره
بدلاً منه؟ سلّم عليها
إذا اتّسع الوقت...
هذا الكلام الذي كان في ودّنا
أن نقول له، كان يسمعه جيّدًا جيّدًا،
ويخبّئه في سعالٍ سريع،
ويلقى به جانبًا، ثم تلمع
أزرار سترته، عندما يبتعد...
سلّم على بيتنا، يا محمود درويش
د. فايز أبو شمالة
سلّم على بيتنا يا غريب،
فناجين قهوتنا لا تزال على حالها،
هل تشمُّ أصابعنا فوقها؟
نعم، يا محمود درويش، بهذه البساطة في الجملة الشعرية، أعلنت موقفك، وحسمت أمر الصراع السياسي على الأرض الفلسطينية، وداويت بوجدانك الجرح الذي يحاول عدوك ترميمه على فسادٍ، وبهذا النقاء الوجداني تصير قريباً، ويظل عدوك غريباً، يشم بصمات أصابعك على فنجان قهوتك الذي صار بالإرهاب فنجان قهوته، ويتبع خطوة أقدامك، التي صارت بالدبابة خطوته، ويقلد تراثك، وسيرتك، لتصير تاريخه المزيف، ويقلم شجرك، ويعلف طيرك، ويتسلق على نجومك، ويستسقي المطر من سمائك، ويبعثر أمنياتك، ويقطف ثمرك، لتصير له دولة لا يزال فيها غريباً، يا قريباً، وهاجساً يقلق راحة الغريب، وهو يتلمس وجودك الغائب في حجرة نومه، ويستشعر وقع أقدامك على سطح منزلك، وسيظل غريباً تطل عليه من نافذة الأحلام الليلة، رغم طائراته، وأجهزة التصنت، عدوك لا يزال غريباً عن هذه الأرض التي جاءك ملك الموت وأنت غريباً عنها، أيها القريب الذي ما اتسعت واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط على احتواء جسدك حيث المنبت الذي أحببت، يحسبك بعيداً عنها، وأنت فيها منذ ستين سنة من الاغتصاب لتراب فلسطين، لا يزال غريباً عنها، وأنت القريب منها يا محمود، رغم مسافات الألم التي تفصل قلبك الفلسطيني عن شرايين الجسد، ورغم حالة الانحطاط التي تمر بالمفاصل الفلسطينية، ورغم وهن العضلات العربية.
يا محمود درويش، لطالما وقفنا ببابك، نتعلم منك فن الترتيل، وهدير المعاني، وفن الترتيب ووشوشة الأغاني، وأخذنا عنك، وامتصصنا رحيق خيالك العذب في توليف الصورة الفنية، لقد تزودنا من شعرك في مسغبة السجون يوماً، ونحن نردد في الزنازين خلفك:
وطني، يعلمني حديد سلاسلي عنف النسور، ورقة المتفائل
ما كنت أحسب أن تحت جلودنا ميلاد عاصفة، وعرس جداول
سدوا على النور في زنزانة فتوهجت في القلب شمس مشاعل
اليوم نجمع عليك، وتلتقي كل الأطياف الفلسطينية خلفك على كلام من حرير، أنت المتوج بزهر الفكرة والتعبير، نمشي بقامتك الممشوقة خطوات الثقة بفك القيد، والتحرير، أيها العائد إلى فلسطين ممداً في الكفن، كي تؤنس البيت الذي أوحش بالخلافات بين أخوة الدم، والمصير، إن البيوت تموت إذا غاب أصحابها، نتوحد اليوم تحت شمس آب بعد غياب، ونحن نردد معك ما عايشته كل أم، وأخت، وابنه، وامرأة فلسطينية، تناجي السحابة قائلة لها:
غطي حبيبي
فإن ثيابي مبللةٌ بدمه
كل ثياب الفلسطينيين مبللة بدم الشهداء، وكل أجسادهم عارية من دون ذلك الثوب المبلل كبرياء، وكل نفوس الفلسطينيين خاوية إن لم يبد منهم حرصاً، ونهجاً، وفعلاً يغطي بالحوار الفلسطيني عورة قضيتهم المكشوفة، ويستر بالوحدة الوطنية الإسلامية سوءتهم، ويغطي بالتسامح، والصفح، والمحبة جسدك، وأجساد الشهداء المتحرقة تحت شمس التفرقة الملتهبة، والانقسام المقيت، والتمزق البائس.
نم يا محمود درويش، نم في حضن التراب الذي انشق عن شعبٍ أبيٍّ لا يعرف الوهن، نم، فقد تدلت قطوف شعرك المقاوم على الروابي كالزمن، وظلّلت رؤيتك الثوابت الوطنية في المحن، نم يا محمود، فقد أورقت أغصان روحك وفاءً، وكبرياءً في الكفن.
وإنّ غداً سينبت في أجنحة السياسة الفلسطينية ريش التآخي، والكرامة، والشجن.