يا طـالـب المـجــد فـي عجــور مــورده =عـــذب مـعـيــن يـروّي غــلــة فـيـنـــــا=شــــم الأنــــــوف أبــاة دام عـــزهــــــم =هـــم الأوائــل إن نــادى مـنــاديــــــنــــا=تـفـوح يـا بـاقـة الأزهـــار فـي وطـنــي =فــوح الأريـــج ونـفـح الطيــب يغـريـنـا كلمة الإدارة


مبارك .........مبارك لعجور ومنتديات عجور       »     عجور التاريخ و الحضارة - الحلقة الثانية       »     سجل الوفيات لعجور ١٣٢٠هـ -١٣٣٠هـ ١٩٠٢م - ١٩١١م       »     عجور التاريخ و الحضارة       »     ميزانية قرية عجور - 1939       »     عجور - وقوعات الزواج 1915م       »     عهد عشائر عجور بالحفاظ على اراضي عجور المشاع و عدم بيعها لل       »     اول أحصاء(حصر نفوس) موثق لسكان عجور1878م       »     أراضي عجور المشاع - حصري       »     اسماء من عجور مطلوبون للضريبة 1       »     ضريبة الانتداب البريطاني "3"       »     عجور - لجنة 18 ( اللجنة القومية لعجور)       »     أراضي عجور الحكر       »     عجور التاريخ و الحضارة-الحلقة الثالثة       »     علم النفس الاجتماعي       »     ملوك المملكة الاردنية الهاشمية       »     موسوعة صور القدس- زهرة المدائن       »     دليل الجامعات العربية و العالمية       »     روائع الشعر العالمي       »     موسوعة الاصول و القبائل العربية كاملة       »    

آخر 25 مشاركات
ملف عن الحج وما يتعلق به (الكاتـب : نور الهدى - آخر مشاركة : قلم حزين - )           »          كبرت بنتــي / قصة مؤثرة (الكاتـب : أمان - آخر مشاركة : قلم حزين - )           »          مبارك .........مبارك لعجور ومنتديات عجور (الكاتـب : م .نبيل زبن - آخر مشاركة : نور الهدى - )           »          عجور التاريخ و الحضارة - الحلقة الثانية (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          سجل الوفيات لعجور ١٣٢٠هـ -١٣٣٠هـ ١٩٠٢م - ١٩١١م (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          عجور التاريخ و الحضارة (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          ميزانية قرية عجور - 1939 (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          عجور - وقوعات الزواج 1915م (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          عهد عشائر عجور بالحفاظ على اراضي عجور المشاع و عدم بيعها لل (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          اول أحصاء(حصر نفوس) موثق لسكان عجور1878م (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          أراضي عجور المشاع - حصري (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          اسماء من عجور مطلوبون للضريبة 1 (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          ضريبة الانتداب البريطاني "3" (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          عجور - لجنة 18 ( اللجنة القومية لعجور) (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          أراضي عجور الحكر (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          عجور التاريخ و الحضارة-الحلقة الثالثة (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          كيف و متى تحدثين طفلك عن التحرش ؟ (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          قصص اطفال للبنوتات الحلوين (الكاتـب : اميرة عجور - آخر مشاركة : م .نبيل زبن - )           »          علم النفس الاجتماعي (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          ملوك المملكة الاردنية الهاشمية (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          موسوعة صور القدس- زهرة المدائن (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          دليل الجامعات العربية و العالمية (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          روائع الشعر العالمي (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          موسوعة الاصول و القبائل العربية كاملة (الكاتـب : م .نبيل زبن - )           »          ضيف اليوم بصراحة (الكاتـب : Big heart - آخر مشاركة : ajoor - )


العودة   منتديات عجور - بيت كل العرب > الاقسام الأردنيه > قسم جلالة الملك المفدى والعائلة الهاشمية
قسم جلالة الملك المفدى والعائلة الهاشمية قسم خاص بحياة وانجازات جلالة الملك وجميع ابناء العائلة الهاشمية



إضافة رد
قديم 05-16-2011, 11:59 AM رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
أمان
عضو ملكي
 
الصورة الرمزية أمان
إحصائية العضو






 

أمان غير متواجد حالياً

 


افتراضي



* لايعرف الناس ، ياصاحب الجلالة ، إلا القليل عن أسرتكم وعن طفولتكم ، ويقال بأنكم كنتم من الناس الفقراء، وأن موارد أسرتكم كانت محدودة .

- كانت طفولتي بسيطة وجد سعيدة ، وكنت دوماً شديد التعلق بوالدي. أما والدتي الملكة زين التي بقيت دوماً إلى جانبي والتي تعيش في الوقت الحاضر ، في عمان فامرأة تثير الاعجاب ، إنها ليست جميلة فحسب، بل هي أيضاً موفورة الذكاء، وكانت حكمتها وشجاعتها ونصائحها ذات تأثير حاسم بالنسبة إلي.

لم تكن أسرتنا في الواقع تعيش في بحبوحة ، وهذا أقل ما يمكن قوله، ولا نبالغ إذا قلنا بأننا كنا فقراء. في عام 1950، عندما كان والدي ولياً للعهد، كان يتقاضى من الدولة راتباً مقدارة مائة دينار، وقبل ذلك ، في الأربعينات ، كان الراتب أقل بكثير. وبالطبع لم نكن نملك ثروة شخصية .

وإليك قصة تصف لك مدى فقرنا، بعد سنة من مجيئي إلى هذه الدنيا، ولدت للأسرة طفلة صغيرة، إلا أنها ماتت بعد شهرين من ولادتها ، من جراء البرد القارص في عمان ، فقد قضى عليها مرض ذات الرئة، لأننا كنا لانملك من الموارد ما يسمح بتدفئة بيتنا الصغير.

وإنني لأذكر رحلة قمنا بها بعد بضع سنين ، لزيارة ابن عمي فيصل في بغداد، فتعلقت نفسي بدب ضخم من القطيفة، ولم أكن أرغب في الانفصال عنه بأي ثمن، ولكن في لحظة العودة إلى عمان ، اضطررت مع ذلك إلى التسليم بتركه لابن عمي. ولقد تمزق قلبي من جراء ذلك ، وفي اليوم التالي، اشترت لي أمي دباً مماثلاً بعد أن باعت آخر حلية كانت في حوزتها .


لقد كان تشجيعها لي طوال عمري، يشد من عزيمتي في خلال الأزمات والفترات العصبية. ومن المؤكد أنه لولا تضحية أمي واخلاصها وصبرها لما كان في مقدور أبي أن يحكم بلادنا حتى خلال الفترة القصيرة التي دام فيها حكمه. ولو أن أبي الذي كان يعرف أمي إلى جانبه، لم يتدخل بعزم وتصميم بعد إغتيال جدي في تموز (يوليو) من عام 1951، لكان من المحتمل أن يكون تاريخ الأردن اليوم مختلفاً عما هو عليه الآن.

عندما كنت صبياً صغيراً ، كنا نقيم جميعاً في دارة متواضعة تتألف من خمس حجرات مع غرفة استحمام واحدة تحيط بها قطعة أرض صغيرة في جبل عمان، أحد تلال العاصمة السبعة، لقد كان ابن عمي فيصل ملك العراق يوحي إلي بانطباع أنه يعيش في عالم غني ثري، وانني لأذكر زيارة أخرى قمت بها إلى بغداد عندما كان لي من العمر عشر سنين. فقدم لي فيصل، بمثابة هدية الوداع، دراجة متألقة متلألئة، وقد كان لدي شعور بأنني لن أمتلك أبداً في حياتي شيئاً أجمل منها. وطوال سنة كاملة بقيت الدراجة محتفظة بالجمال واللمعان اللذين كانت عليهما في اليوم الأول، وكنت في الصباح والمساء ، أدلكها وألمعها وأجعلها تضئ وتشع.
وفي أحد الأيام جاءتني أمي وقالت لي بلطف: "إنني أعرف بأنني سوف أشق عليك ، ولكن وضعنا المالي يبعث على الهم والقلق ، فلكي نستطيع الخلاص من هذه الحال، لابد لنا من بيع بعض المتاع الذي لدينا، فهل يضايقك يابني العزيز أن نبيع دراجتك؟" .
ولقد جاهدت نفسي لاحتباس دموعي . إنهم يستطيعون بيع كل شئ ولكن ليس دراجتي!

وقالت لي أمي من باب التسرية عني وتعزيتي " انك تعرف بأن عليك أن تواجه وتتغلب على الكثير من خيبة الأمل ، كن قوياً ، فسيأتي يوم تنسى فيه الدراجة، وتقود أجمل السيارات".
لقد قدمت أجمل السيارات فعلاً فيما بعد، ولكنني لم أنس أبداً هذه الدراجة التي بيعت في اليوم التالي بخمسة دنانير.







رد مع اقتباس
قديم 05-16-2011, 12:02 PM رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
أمان
عضو ملكي
 
الصورة الرمزية أمان
إحصائية العضو






 

أمان غير متواجد حالياً

 


افتراضي



ليس الفقر عيباً .

ولقد أثبت لي مستوى معيشتنا المتواضع، انني أستطيع أن أحيا حياة أبسط من الحياة التي عشتها فيما بعد، وعلمني أيضاً أن أقدر قيمة المال إلى الحد الذي أصبحت فيه الآن أشعر بمتعة كبرى في منح العطايا للمعوزين.

وعلى الرغم من فقرنا ، فقد كانت حياتنا سعيدة نسبياً. فقد اختلفت إلى سبع مدارس متباينة سواء في عمان أو في الأسكندرية، وقد كنت دوماً أشعر بفرح شديد في مصادقة الصبيان الآخرين، وأن أعامل يماماً مثل الآخرين ، ولكن لئن صادقت عدداً كبيراً من هؤلاء فإن القليل منهم قد أصبحوا من الخلان الأوفياء الحقيقيين.
ولعل ذلك يعود إلى أنني أغير مدرستي بإستمرار. وكأن قوى متعارضة تتجابه فيما بينها بالنسبة لتعليمي . فما أكاد أسجل في مدرسة حتى يجيء جدي صاحب السلطة التي نعلمها ونعترف بها جميعاً، فيقرر أنني أحتاج إلى دروس على انفراد وعندئذ يأتي دور أبي ليقرر تغيير المؤسسة ... وأخيراً نجحت في أن أسجل نفسي في كلية فيكتوريا بالاسكندرية، وهي مؤسسة تمزج التعليم باللغتين العربية والانكليزية، وبذلك فتح أمامي عالم جديد، عالم لم أكن أعرفه قط، مع ما فيه من رياضة، ككرة القدم والكريكيت، ومن قراءة، ومن مصاحبة حقيقية للرفاق، وما زلت أذكر تماماً حتى اليوم، المهجع الكبير الذي كنت أتقاسمه مع ثلاثين من الفتيان الآخرين ورذاذ الماء المثلج الذي كنت أستحم به كل صباح، واللباس المدرسي المصنوع من نسيج الصوف الخفيف. وقميص الرياضة الخاص بالكلية، وإنني لأرى نفسي أيضاً كنت جالساً على حافة سريري ، بعد ظهر أحد الأيام، أحاول جهدي ادخال خيط في ثقب ابرة لترقيع قميص الرياضة الذي كنت قد مزقته. وأخيراً نجحت في ذلك لأنني كنت أعرف أن والدي كانا لا يملكان ما يتيح لي شراء قميص آخر .
كان جدي يساعدنا مالياً لتسديد الأقساط المدرسية لأن أبوي ما كانا ليستطيعان ذلك لوحدهما . وربما يبدو هذا غريباً ، ولكن لا تنسوا أن والدي كان يتلقى راتباً سنوياً متواضعاً ، ولما كان عددنا في البيت كبيراً ، وكان يحمل لقب ولي للعهد، فلم تكن الحياة هينة بالنسبة إليه.

لقد كان جدي بصفته ملكاً، يتلقى تعويضاً من الدولة يكاد لايفي بالضرورات التي كان يستوجبها مركزه، ومع ذلك فقد كان يتوصل إلى تدبير أموره، مع تقديم مساعدة لنا ودفع أقساطي المدرسية. فيما يتعلق بالنقود السائلة، فقد كنا غالباً في ضيق، الأمر الذي كان يضعني في موقف غريب. فقد كنت أختلف إلى مدرسة ممتازة في حين أن نقود الجيب التي تردني كانت مضحكة حقاً.

هل هذا عاد علي بخير كثير وذلك بلا شك من جراء العادة التي اكتسبها في وقت مبكر وهي أن أكون مقتراً جداً، مما جعلني فيما بعد أراقب مالية بلادي بعين نقادة.

إن السنتين اللتين أمضيتهما في كلية فيكتوريا تحسب بين أجمل سني عمري.
فقد كنت أتلقى تعليماً طبيعياً تماماً، وأمارس الألعاب الرياضية في الوقت نفسه. وكنت أتابع دروساً بالعربية وبالتعليم الديني، وأصبحت من أمهر اللاعبين بالسيف مما أثار فرح جدي الذي كان يتابع علاماتي المدرسية باهتمام. وخلال الفصل الأخير في الإسكندرية ، فزت بميدالية في لعب السيف، وكان سجل علاماتي جيداً تماماً، فبلغ سرور جدي بذلك حداً كبيراً حمله على رفع درجتي العسكرية الفخرية إلى رتبة رئيس.

في نهاية هاتين السنتين، عندما بلغت من العمر بين الخامسة عشرة والسادسة عشرة ، ازداد جدي تعلقاً بي، فأصبحت أكثر قرباً إليه ولا سيما خلال الإجازات الكبرى: وقد كان يعتبر أن الإجازات هي المناسبة المنشودة لمضاعفة الجهود. .
لقد كان رجلاً شديداً وعادلاً، ولقد وصفه السير ألك كيركبرايد، الوزير الانكليزي في شرقي الأردن بأنه " عاهل ذو عينين تشعان فطنة، وعقل يتوقد ذكاء". فقد كان رجلاً من البادية . ربي بين القبائل البدوية المحاربة . وكان يشعر حتى آخر يوم من حياته بأنه طبيعة النضال من أجل الإستقلال العربي طوال عشر سنين ولكن النصر الكامل قد سلب منه بما يخالف الحق والعدل، فهو لم يكن جندياً فحسب، بل كان دبلوماسياً إلى أقصى الحدود ، وكان أديباً كبيراً ينشد القصائد الشعرية طوال ساعات ، كان إلى هذا شاعراً هو نفسه كما كان لاعباً ماهراً في الشطرنج، كان شيخاً ذا مناقب مذهلة تثير الإعجاب. وكان حاد الطبع أوتوقراطياً في الغالب. أحال شرقي الأردن إلى بلاد سعيدة يحلو العيش فيها






رد مع اقتباس
قديم 05-16-2011, 12:03 PM رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
أمان
عضو ملكي
 
الصورة الرمزية أمان
إحصائية العضو






 

أمان غير متواجد حالياً

 


افتراضي


أما والدي المأسوف عليه الذي أضحى ملكاً فيما بعد، فقد كان مختلفاً تماماً عنه .

إذ كان أكثر الناس لطفاً وأخلقهم بالمحبة والوداد، كان طيباً كريماً كثير السحر والجاذبية، عندما كنا أطفالاً، كنا نجلس في مقابلته ونصغي إليه وهو يبتكر لنا القصص المدهشة. وهكذا كانت أسرتنا الصغيرة متحدة القلب إلى أقصى حد.
وكان الحب الذي ينبعث منها ذا أهمية بالغة بالنسبة إلينا.

كان والدي بالغ الإستقامة .فلم أصادف في حياتي رجلاً واحداً لايحبه. ولكن المرض الذي كان يعاني منه قد أعاقه لسوء الحظ عن الاستمرار في إدارة شئون الملك بحكمة. ومع ذلك فقد نجح، على الرغم من قصر فترة حكمه، في تحسين العلاقات التي كانت متوترة بين الأردن والعربية السعودية، ومصر، لقد كان الواضع الرئيسي لدستورنا ومع ذلك فلا بد لي من القول بأن العلاقة بين والدي وجدي لم تكن جيدة، فقد كانا الرجلان متباعدين من حيث النظرة إلى الحياة والسن، والواقع أن جدي لم يتبين على الوجه الصحيح إلى أي مدى كان والدي مريضاً: كان يرفض هذا المرض، فقد كان الملك الشيخ من وفرة الصحة ومتانة البنيان إلى الحد الذي جعله لايتمكن من تفهم معنى المرض والمكابدة والمعاناة. أما نحن فقد كنا نعرف ذلك ونحيط والدنا بالكثير من العناية والرعاية والحب. في حين أن جدي كان يعيش إلى حد ما، في بطولات الماضي ، وكان يرى الأشياء على وجه آخر، وهذا ما أصابه بأشد خيبة أمل مرارة في حياته.

واني لأذكر حادثة ترددت طويلاً في روايتها لأنها كانت شخصية وإليكها فهي بليغة الدلالة :

في أحد الأيام اغتيل رياض الصلح ، وهو شخصية سياسية لبنانية كانت في زيارة الأردن، وقد وقع الحادث في يوم الإثنين الذي سبق مقتل جدي . قتل ضيفنا في زيارة جدي وكان المرافق العسكري لجدي في صحبته. وعلمت النبأ بعد الظهر، فأسرعت إلى القصر، فوجدت الملك عبد الله غاضباً غضباً لم أعرف له مثيل من قبل. لقد كان يرى أن من غير المعقول أن يقتل ضيف في الأردن.
وكان غضبه يزداد كلما اتضحت التفاصيل . ثم دخل الحجرة مرافقه العسكري الذي كان قد نجا من الموت، فألقى عليه جدي نظرة احتقار وخاطبه قائلاً
"كيف تجرؤ أن تبقى حياً؟" وقد كان على عمي الأمير نايف ، وهو أخ لأب والدي، كان عليه أن يكون إلى جانب الملك، ولكنه كان غائباً في هذه اللحظة العصبية. وصرخ بي جدي قائلاً: "أين عمك؟ إذهب وابحث عنه وأحضره!".

فاندفعت إلى الخارج. ومضت لحظات لم يكن عمي خلالها قد عثر بعد عليه. وكان الناس يقبلون مسرعين في أ‘داد متزايدة. والتفت جدي فجأة وقال:
"لقد اختفىّ أين ذهب؟" . فذهبت من جديد لأبحث عنه. وأخيراً هدأت العاصفة وبقيت وحدي مع الملك. فنظر إلي بوجه يعلوه الإصفرار من الحزن والألم . ثم وضع يده على جبيني قائلاً في حشرجة وألم: " هذا اليوم هو أكثر أيام حياتي إيلاماً وشدة! ابن مريض اتحمل عبأه، والآخر في الأزمة يجد الوسيلة للاختفاء!".

وبقليل من الرجوع بالفكر إلى الوراء فهمت الآن لماذا أصبح جدي كلما تقدمت به السن أكثر تسامحاً معي، ومحبة لي وعطفاً علي. وربما كان ذلك لأنني قد غدوت في نظره الإبن الذي كان يتوق أن يكون له .

وعندما تولى بنفسه أمر تثقيفي لاسيما خلال العطل الصيفية الأخيرة أصبح صلباً لا يلين . فقد كان ينهض دوماً عند مطلع الفجر ليزاول أعماله، وهي عادة غدت بالنسبة إلي فيما بعد مفيدة جداً بحيث أنني كنت أجد نفسي ناهضاً في غالب الأحيان في حوالي الساعة السادسة صباحاً فأعمد إلى الإغتسال بسرعة في بيتنا الصغير، وما أن تحين الساعة السادسة والنصف حتى أكون في الطريق إلى القصر .
وهنالك كان كل شيء جاهزاً. فقد كان ثمة غرفة تستخدم كقاعة تدريس . أما أستاذي فقد كان دوماً ينحى عن مهمته لأن جدي نفسه هو الذي كان يبدأ في إلقاء الدروس . فقد كان يفتح كتاباً في اللغة العربية ، أو مجموعة من النصوص الدينية ويقول :"يا بني سنبدأ اليوم بهذه الصفحة " . ثم يلقي إلى الأستاذ بنظرة تعوزها حرارة المودة ويقول له: " تأكد من أن الأمير قد حفظ دروسه جيداً".

بعد ساعتين من الدراسة يأتي جدي بنفسه ليأخذني أو أذهب للإلتحاق به في مكتبه . فيكون قد سبق له إنجاز الجزء الأساسي من عمله والأمل يداعب خياله في أن يكون قد فعلت مثله . كان جيد الإطلاع على برنامجي الدراسي إلى الحد الذي لم أحاول أبداً أن أخدعه ...






رد مع اقتباس
قديم 05-16-2011, 12:10 PM رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
أمان
عضو ملكي
 
الصورة الرمزية أمان
إحصائية العضو






 

أمان غير متواجد حالياً

 


افتراضي



وذات يوم ، بينما كنت أتابع درساً في اللغة العربية مع أستاذ كان قد اختاره بنفسه، دخل فجأة إلى حجرة الدراسة وبدأ يلقي علي أسئلة. ولقد خيبت أجوبتي أمله إلى الحد الذي جعله يفحص الأستاذ نفسه ...

كنا أحياناً نتقاسم فطوراً في الساعة الثامنة والنصف. أما قائمة الطعام فكانت تتألف من القهوة البدوية المعطرة بقليل من حب الهال أو من الشاي بالنعناع مع الخبز المرقوق، بلا زبدة ولا مربى. وكان جدي يقول بأن المرء يعمل بصورة أفضل عندما تكون معدته شبه خاوية .

وغالباً ما كان يشرفني بالقيام بعمل مترجم له في مكتبه في القصر لأنه كان يفهم الانكليزية ولكنه لم يكن يتكملها. لقد كنت أحب هذا العمل ، ولكن كان علي أن أكون محترساً حذراً ، فهو لايتكلم الانكليزية حقاً، ولكن خلال اللقاءات الدبلوماسية كان أكثر من مرة ينحي باللئمة على المترجمين لتغييرهم لمعنى كلمة واحدة .
وأن يتمتع بحاسة إدراك غريبة للكلمة الوحيدة التي جرى تشويه معناها. وغالباً جداًً ما كنت مترجمه فلم يوجه إلي ملاحظة إطلاقاً. وفي معظم الأوقات كنت أعود إلى القصر قبل صلاة المغرب ثم نتعشى معاً. وكنت أصغي إليه أثناء تناول الطعام وهو يتكلم عن مهام الملك التي تنطوي على المخاطر ، أو إنني كنت أشهد مجالسه مع الوجهاء. وكنت أنظر إليه وهو يملي مذكراته ورسائله أو وهو يلعب الشطرنج حتى ساعة متأخرة من الليل ، وعندئذٍ كان يقول لي وهو يرى عيني نصف مغلقتين من النعاس:" عد إلى البيت واسترح حتى الصباح".
كان يأذن لي بمرافقته أينما ذهب. وهو الذي علمني أن أفهم أفكار شعبي وتعقد العالم العربي. كما أنه هو الذي علمني المنصب الملكي وكيف يمكن مواجهة الخصم بنجاح... ولقد علمني بشكل خاص أن أعظم واجبات الملك ، هو أن يخدم دوماً. وأذكر أيضاً أساليبه غير المألوفة في إفحام من يثيرون غضبه. إليك مثلاً من أمثال عديدة:

بينما كان يتناول طعام العشاء مع أحد الدبلوماسيين ، دار الحديث حول العربية السعودية التي كان ملكها غالباً على خلاف مع جدي. فسأله الدبلوماسي عما إذا كان لا يعتقد بأن من المستحسن لمصلحة القضية العربية أن تجري تسوية لما بينهما من خصومه. فسأله جدي: " ما ذا بلغت من العمر؟".

فأجابه: خمساً وأربعين سنة ما مولاي.

فقال له: هل أستطيع أن أسألك عن عمرك عندما قامت الثورة
العربية الكبرى؟.

فرد عليه: أعتقد بأن عمري كان آنذاك تسع سنين تقريباً يا
مولاي. وأصفر وجه الدبلوماسي اصفراراً ملحوظاً...

"إنك لم تبلغ من العمر تسع سنين عندما كنت أقود بنفسي جيش الشرق الذي حرر العرب. واليوم تطمع في أن تلقي عليّ درساً في الإخلاص للقضية العربية!".

لقد كان رجلاً مدهشاً حقاً ، فقد كان يتمتع بكثير من المواهب الخفية. ففي صباح أحد الأيام كنت أنوي استشارته في أحد الأمور ، فذهبت إلى قصره في موعد أبكر من المعتاد ، في نحو الساعة السابعة. وكان ما يزال في سريريه ، إلا أنه كان مستيقظاً. فأدهشني أن أرى عنده أدوات علمية معده لتجاربه في الفيزياء والكيمياء. وكان على الحائط مكتبة مدهشة ملأى بالكتب العلمية.

كان لديه إحساس عجيب بالدعابة والفكاهة والظرف. وكان يتعاطى السعوط دائماً ، وفي أحد الأيام نسي علبة السعوط. وعندما جئته بها جعلت أتفحصها بالفضـول الطبيعي الذي يتصف به الأولاد ، فنظر إلي وقال:" كأن ذلك يهمك". فلم أجبه. فقال لي: "عليك بالتجربة" ، وقدم لي قليلاً منه. ولما كنت لا أعرف أن المسحوق كان قوياً جداً ، فقد استنشقت كل محتويات العلبة. عندها جعلت أعطس دون توقف مدة ساعة بينما كان جدي يقهقه ضاحكاً. وهذا كان كافياً بالنسبة لي فلم أذوق قط هذا النوع من الأشياء.

ومن المؤكد أنني لم أكن أخشاه ، لأنني كنت أحبه وأحترمه ، ولكن علي أن أعترف بأنني كنت افعل بعض الأشياء خفيه عنه. فمع أنني لم أبلغ سوى الخامسة عشرة ، فقد كنت أتدبر أمري لتعلم قيادة السيارات بأخذ بعض الدروس فيها أثناء ساعات فراغي. وما كنت لأعرف إذا كان جدي على علم بذلك أم لا ، إلا أنني أميل إلى الاعتقاد بأنه كان يتجاهل الأمر تجاهلاً... وكنت أخشى أن أطلعه على ذلك مخافة معارضته. وهو لم يكتشف سري رسمياً إلا قبل وقت قصير من وفاته. فقد جئته مرة في السيارة لتناول طعام العشاء ، وكنت أتهيأ للاستئذان بالانصراف بأن أوجه إليه دوماً تحية المساء في القصر دون أن يرافقني قط إلى سطح الدرج. وخرجت وقفزت إلى داخل السيارة. وما كدت أدير المحرك حتى أقبل الملك. فتصلبت في مكاني قليلاً ، ثم نزلت من السيارة لملاقاته. فقال لي:" أرى أن تعود إلى البيت". فأجبته متلعثماً: نعم يا مولاي.

فقال: حسن إذهب على مهل وكن حذراً.

وكان هذا كل شيء. ثم عدت إلى البيت. وما كدت أصل حتى كان جرس الهاتف يقرع. وكان جدي على الخط. فقال لي: "لقد كنت أرغب فقط في أن أتأكد من وصولك سالماً. ليلة سعيدة".







رد مع اقتباس
قديم 05-16-2011, 12:12 PM رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
أمان
عضو ملكي
 
الصورة الرمزية أمان
إحصائية العضو






 

أمان غير متواجد حالياً

 


افتراضي


هذا هو إذن الرجل الذي علمني الشيء الكثير والذي كان يحبني حباً شديداً والذي أدين له بأكثر مما أستطيع أن أقوله. إنه هو الذي قال لي في أحد الأيام:

"تذكر يا بني: أن أهم شيء في الحياة هو أن يكون لدى المرء العزم والتصميم على العمل ، وأن يكون مستعداً لأن يعطي خير ما في نفسه على الرغم من العوائق ومهما كانت الصعوبات. وعندها فقط تستطيع أن تكون مطمئن النفس مع الله ومع ضميرك".

لقد كان عمري ستة عشر عاماً ، وكنت على عتبة حياة جديدة. وكان عليّ آنئذٍ أن أضع موضع التنفيذ جميع المبادئ التي لقنني إياها ، ولكن إذا كان صحيحاً أنه قد أثر فيّ تأثيراً عميقاً فقد علمني موته في الواقع ما هو أساسي وجوهري.

فالأقطار العربية تختلف عن البلاد الأخرى ، والحياة فيها لا قيمة لها ، كما أن الموت فيها قليل الأهمية. وبمقتل جدي أصابني القهر والألم شخصياً لأول مرة. وكان هذا اليوم الرهيب مليئاً بالدروس والعبر حتى ولو لم أفهمها في الحال. فقد تعلمت أولاً أن الموت قدر لا مرد له. فعندما يموت المرء فإنه يموت لأن ذلك هو إرادة الله. وبذلك اكتسبت هذه الراحة النفسية التي لا ينالها إلا الذين لا يخشون الموت. وفي الوقت نفسه ، فإن الذي يؤمن بالقضاء والقدر عليه أن يعطي خير ما في نفسه خلال الفترة التي تدوم فيها حياته ، لا سيما وأن هذه الحياة يمكن أن تسلب منه بنفس السرعة التي سلبت فيها حياة جدي. أي خلال لحظة وهي اللحظة التي استغرقتها رؤية دخان مسدس القاتل وهي تتلاشى في الحرارة اللافحة لصيف في القدس.

وهذه المعتقدات قد ساعدتني مساعدة كبيرة على احتمال فقدان جدي ، كما أنها أسدت إليّ خدمة جلى في التغلب على الأزمات والمخاطر.
ومما لاشك فيه أن موته قد أتاح لي أن أوضح مفهومي للحياة، وهنالك شيء آخر تعلمته . فإذا كانت الحياة لاقيمة لها تقريباً فإن نصيب الإنسان من هذه القيمة أقل، ولسوف لن أنسى الخداع الإنساني كما بدا في هذا اليوم، فإن موقف ونذالة أولئك الذين كانوا يزعمون أنهم أصدقاء جدي، قد أثرا في نفسي تأثيراً عميقاً إلى الحد الذي لم يكن لدي سوى رغبة واحدة: أن لا أغدو ملكاً للأردن. لذلك تلقيت بارتياح نبأ أن والدي الذي كان يعيش في سويسرا، قد بدا عليه التحسن، وعند عودته كنت أرجو أن أتمكن من الرجوع إلى كلية فيكتوريا بعيداً عن التعطش إلى السلطة والطمع اللذين انطلقا من عقالهما بعد وفاة الملك عبد الله. فالسياسيون. كالطيور الجارحة ، كانوا يتقاتلون لاحراز بعض الفئات من السلطة، وبعض الطامعين من الأقارب، لم يكونوا ينتظرون سوى قراءة الوصية. وكان بعض الناس يشكون في أن والدي قد تعافى بمقدار كاف ليرتقي العرش. وبعضهم كان يأمل أن لا يستطيع تولي الملك لأنهم كانوا يشتهون الملك لأنفسهم، وكنت أنظر بحزن وأنا عاجز عن إتيان أي فعل، كيف كان "أصدقاء" جدي العجيبون يتناسون إخلاصهم دون أي تفكير في مصلحة البلاد. لقد رأيت البنيان الذي أنشأه الملك تتزعزع لأن أقراءه كانوا عاجزين، ولأن ضعفهم سهل تدخل الإنتهازيين. وهذا كان يعني انهيار الأردن الصغير .







رد مع اقتباس
قديم 05-16-2011, 12:13 PM رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
أمان
عضو ملكي
 
الصورة الرمزية أمان
إحصائية العضو






 

أمان غير متواجد حالياً

 


افتراضي



*********
* لقد أثر حادث اغتيال جدكم تأثيراً كبيراً على تطور شخصيتكم ولاشك. ولقد كان حدثاً تاريخياً هاماً في تاريخ الأردن . في أية ظروف وقع هذا الإغتيال ؟

- كان ذلك في يوم الجمعه العشرين من تموز (يوليو) عام 1951. كان الحر شديداً وكان هذا هو اليوم الثاني من اقامتنا في القدس. في هذا اليوم وفي المسجد الأقصى بالقرب من قبة الصخرة، أحالت هذه المأساة القاسية المريرة الفتى ذا الستة عشر ربيعاً الذي كنته ، إلى رجل .

كان الجو ثقيلاً طوال سائر أيام الأسبوع ، وكانت نهاية الحرب الأولى العربية الإسرائيلية عام 1948، بين أمور أخرى قد تركت العالم العربي متلاشي النفس، ساخطاً ، غاضباً.

كان التوتر يتعاظم ويتسرب إلى كل مكان كالغيوم المسمومة .

في يوم الإثنين السابق ، كان اغتيال السياسي اللبناني الكبير رياض الصلح قد ألهب العواطف والاهواء. لم يكن لمصرعه حقاً أية علاقة بجريمة القتل التي تلته. ولكن إغتياله حدث وهو ضيف في الأردن ، فتأثرت له البلاد تأثراً عميقاً، حتى أن الوجوه في الشوارع كانت مقبطة. وما كان الناس يكفون عن الصمت، إلا ليندفعوا إلى الصراخ والمناقشات الحادة التي كانت تنذر بقرب حدوث أزمة .

كانت هذه هي المرة الأولى التي عرف فيها الأردن اهانة كهذه، وبديهي أنها كانت أمراً تافهاً بالقياس إلى الأزمات التي ذللتها وسيطرت عليها منذ ذلك الحين، ولكنها كانت أولى هذه الأزمات . لم يكن غاضب الشعب موجهاً ضد رجل أو حزب ، وإنما ضد هذه القوة الخفية التي حطمت المجرى الهاديء للحياة .

كان السكون والهدوء يخيمان على الأردن عندما كنت صبياً، وكانت الحياة فيه ناعمة رخية، أما شعبه فكان يكدح بعزيمة لاتعرف الكلال. كان يعبد الله ويمتثل لأحكام القوانين ولايبتغي إلا العيش بسلام وضمان مكان له في الجنة، عندما اغتيل فجأة زائر رفيع الشأن ، .. عندنا ، زائر كان يتمتع بضيافتنا . وبعد ذلك ببضعة أيام ... قتل الملك نفسه .

لقد فكرت دوماً بأن مصر كان لها نصيب من المسئولية في اغتياله، لأن جدي كان له فيها كثير من الاعداء. لم يمض إلا وقت قصير على مغادرتي المدرسة في الاسكندرية، عندما بدأت الحملة ضد جدي. لقد كانت مؤامرة تروي إلى تفكيك أجزاء الأردن ، أما المصرييون أنفسهم فلا شأن لهم بذلك . فقد عشت بينهم وأنا أعرفهم . في ذلك الحين كانت الفروقات بين الطبقات عظيمة . وكان الهدوء الغريب للشعب ، ينبيء بالإنفجار . كان يبدو أن المصريين راضيين بحكم أي كان . ولكن ذلك لم يكن إلا من قبيل المظاهر. لقد كانوا سريعي التأثر بما كان يوحى إليهم ، وكانوا قليلي الاطلاع على أحوال العالم العربي . ولكن المعارضة الداخلية كانت تتزايد . فقد كان من غير الممكن الإبقاء على هذا الشعب تحت رحمة الجوع وسياسة التفجير ، كما كان يفعل الحكام المصريون المتسلطون القصار إزاء الفلاحين قبل ثورة عام 1952، فأدرك أصحاب السلطة دلائل الخطر ، فلجأوا إلى الأسلوب القديم في تقديم كبش الفداء، فكان الأردن أنسب ما يحقق هذه الغاية . لقد تلقت بلادي، أثناء الحرب ضد إسرائيل ، أكبر الضربات . إذ كانت محل الانتقادات من كل نوع، على الرغم من أن جدي قد نبه شعبه إلا كل ماسوف يحدث قبل ذلك بوقت طويل . لم يكن وعيه السياسي غير عادي ، ولكن قدرته على التنبؤ وكلفه الحقيقة إجتذبا إليه طائفة لابأس بها من الأعداء .
في الوقت الذي كنا نتكلم فيه عن الرحلة إلى القدس كان إحساسنا الداخلي بما سوف يحدث قوياً إلى الحد الذي جعل جدي نفسه يبدو كأنه يتنبأ بالكارثة وهو الرجل الذي لايفزع ولايقلق بسهولة . وإنني لأذكر كيف تناقشت معه طويلاً قبل ثلاثة أيام من ذهابنا إلى المدينة المقدسة . ودون أن أفهم السبب، قال لي جدي فجأة بصوته العذب:
" أرجو أن تعرف ياولدي، أن عليك في يوم ما ، أن تتحمل مسئوليات جسام، وإنني لأعتمد عليك أن تصنع المستحيل لكي لا تضيع جهودي سدىً. إنني أعتمد عليك في الاستمرار في خدمة شعبي" .
إنني أذكر جيداً هذه اللحظة . فجدي الذي كان بدوياً بقلبه كان شديد الحب للبادية وعوائدها إلى الحد الذي جعله ينصب الخيام في حدائق قصره بنفسه، ويقضي فيها جزءاً كبيراً من وقته، وكان في الأمسيات المعتدلة الطقس يجلس متكئاً على الوسائد الحريرية يحيط به أصدقاؤه الذين يفيدون لزيارته، وفي إحدى الخيام ، وأنا جالس بالقرب منه كما كان يحدث لي غالباً، وعدته وعداً رسمياً بتحقيق أمنيته، لقد بذلت له هذا الوعد وأنا أعرف تمام المعرفه ما أقدمت عليه، وأتوق إلى الوفاء بوعدي واحترامه. ولكني لم أكن أتخيل لحظة واحدة أن الأمور سوف تتسارع بهذا الشكل.








رد مع اقتباس
قديم 05-16-2011, 12:13 PM رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
أمان
عضو ملكي
 
الصورة الرمزية أمان
إحصائية العضو






 

أمان غير متواجد حالياً

 


افتراضي



*********

كان الملك عبد الله ، وهو في التاسعة والستين، يتمتع بصحة جيدة ، وكان والدي أيضاً يظهر دلائل مشجعة على قرب شفائه، فكان لابد من انتظار وقت طويل قبل أن يرتقي والدي العرش. أما بالنسبة إلي، فقد كان الأمر أبعد منالاً.

وما كادت تمضي أيام ثلاثة على ذلك حتى كنت أجثو أمام جثة جدي في الوقت الذي كان أصدقاؤه يهربون في كل اتجاه. وبعد مضي سنة أصبحت ملك الأردن . وإنني اليوم لأتمنى أن يكون الوعد الذي قطعته له قد أنعش فؤاده بالقدر الذي شدد من تصميمي على الرضاء بإرادة الله وخدمة شعب الأردن ما وسعني ذلك.
لقد وقعت أحداث عديدة خلال هذا الأسبوع الفاجع، ففي صباح الأربعاء ، عشية رحيلنا إلى القدس، التمس سفير الولايات المتحدة مقابلة الملك.

قال:" يا صاحب الجلالة، هل أستطيع أن أتوسل إليكم بأن لا تذهبوا إلى القدس. إذ يبدو أن هنالك مؤامرة للاعتداء على حياتكم انني لأرجوكم يا مولاي أن تعدلوا من برامجكم" .

فنظر إليه جدي وهو مستغرق في التفكير . ثم قال له :
"أشكركم لتحذيري . حتى ولو صح ما ذكرتموه، فلسوف أذهب على كل حال لأن حياتي ملك لشعبي ومكاني هو بالقرب منه. ولسوف أموت إذا كانت هذه هي مشيئة الله" .
في يوم الأربعاء أنهينا استعدادات السفر . ولم يكن مفترضاً أن أقوم بالرحلة إلى القدس. ولكن في المساء بعث إلي الملك يطلبني وخاطبني قائلاً :" إنك تعلم بأنني طلبت إلى الكثير من الناس مرافقتي غداً إلى القدس. ولكن الغريب أن معظمهم لا يرغبون في الذهاب. فكأنهم يخشون شيئاً. إنني لم أسمع في حياتي أعذاراً بهذه التفاهة" . ونظر إلي لحظة ثم أضاف " هل تريد أن تأتي معي يا ولدي؟" فقلت له : سأكون سعيداً بذلك فحياتي ليست شيئاً يا مولاي، بالقياس إلى حياتك .
ربما كانت اللهجة مسرحية ، ولكن الكلمات كانت تصدر من أعماق أعماق قلبي. فنظر إلي بوقار. ولكنه لم يضف شيئاً . كانت الدموع تترقرق في عينيه ... ذهبنا إذن إلى القدس معاً . وقد بدأ نهار الجمعة باكراً جداً. لأنه كان قد وعد بزيارة بعض الأصدقاء في نابلس، قبل أن يتوجه إلى القدس للصلاة. فتناولنا فطوراً صباحياً جيداً نسبياً، لأن النهار سيكون طويلاً . ونظر إلي جدي لحظة، ثم طرح علي سؤالاً لم يكن على الأقل متوقعاً:
"لماذا لم تلبس البزة العسكرية؟" .
لم يكن لدي أي داع لارتداء الزي العسكري. فالمالك الذي كان ذوقه بسيطاً جداً لم يسبق له أبداً أن طلب مني تغيير ملابسي (كان لايحب الاتداء لباس المراسم والاختفالات في يوم مخصص للصلاة) يضاف إلى ذلك أنني لم أكن أملك سوى بذلة عسكرية واحدة . وقد ارتديتها في اليوم السابق بمناسبة تقديم سرب الطيارين الأول في القوات الجوية الأردنية. ولما كانت أريد تنظيفها ، فقد بعث بها إلى عمان مع ملابس أخرى شخصية قبل تناول طعام الفطور .

وأمرني جدي قائلاً : " عليك بارتداء البزة العسكرية" .

فأسرعت وأمرني بإرسال ساع لاستعادة الرداء بأسرع وقت ممكن. وغيرت ملابسي بعد قليل أجل نابلس التي لم تستغرق وقتاً طويلاً . ولما كان متقدمين في الوقت على البرنامج المحدد، فقد استقبل جدي بعض الوجهاء المحليين .

كان بين الزوار الجنرال كوك الذي يسمى وقتئذ كوك باشا ، وهو قائد الفرقة الجديدة في الجيش العربي . لم يكن قد مضى على وصوله إلى الأردن إلا وقت قليل . وقد قبلت بسرور طلب الملك أن أقوم بدور المترجم بينهما، لا سيما عندما قال له :
" إنني فخور بحفيدي وغداً سوف أقلده شعار المرافق العسكري " .

قليل أولئك الذين كانوا يعرفون أن غداً بالنسبة إلى جدي سوف لن يأتي أبداً . كان هناك رجل يعرف بذلك. ولقد كنت إلى جانب جدي عندما وصل خاضعاً متواضعاً يلتمس المقابلة. كان اسمه موسى عبدالله الحسيني. كان من أقرباء المفتي ومن خريجي جامعات ألمانيا الغربية. لقد خر راكعاً أمام الملك ثم أعرب له، وعيناه تحدقان في عينيه، عن ولائه، متمنياً له طول العمر والسعادة .

وبعد ساعتين كان الملك قد قتل. أما الحسيني، فقد كان تورطه في هذا الاغتيال من الخطورة بحيث يتم إعدامه .







رد مع اقتباس
قديم 05-16-2011, 12:14 PM رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
أمان
عضو ملكي
 
الصورة الرمزية أمان
إحصائية العضو






 

أمان غير متواجد حالياً

 


افتراضي



****
كانت حياتي دوماً مرادفة للعزلة. وقد ساءلت نفسي مراراً منذ يوم الجمعة الدموية هذه، عما كانت تخفي هذه الإبتسامات المعسولة، وذه الإنحناءات، وهذه المجاهرة الحارة بالولاء . واني لاتساءل اليوم عما إذا كان جدي لم يتحسس باقتراب الخطر منه . كان الناس جميعاً على الرحب والسعة في بيته في القدس. وقبل قليل من انطلاقنا نحو المسجد وصل جماعة من الأصحاب فكلمهم جدي عن أولئك الذين رفضوا مرافقته بعبارات كان فيها من معاني التنبؤ بالغيب ما كان سيجعلني لا انقلها أبداً لو لم يكن يوجد الكثير من الشهود عليها .

قال: "لقد خافوا" . وأضاف : " إن الحياة والموت بالنسبة إلي ليس لهما إلا أهمية قليلة. وإذا كان لابد من أن أموت ،فإني أفضل أن أقتل برصاصة في الرأس . فهو أسرع أنواع الموت " .
وعندها نظر أحدهم إلى الساعة ، فنهض جدي لأن وقت الإنطلاق كان قد حان .
جلس أحدنا بجانب الآخر . وانطلقنا باتجاه المسجد كانت كل التدابير الأمنية قد اتخذت. وكانت تحرس الطريق قوات مجهزة بكامل أسلحتها . كان القلق بادياً على الوجوه. وما أن دخلنا المدينة القديمة ، حتى ترجلنا متجهين إلى المسجد. كان الحرس العسكري من كثرة العدد إلى الحد الذي جعلني أسأل ضابطاً: " ما الذي يجري؟ هل يتعلق الأمر بمسيرة جنائزية؟ " .
كنت أسير وراء جدي باتجاه خفيف نحو اليمين . لقد تبادل بعض الكلمات في الطريق. ثم انتصب باب المسجد أمامنا تماماً، وقدم حرس الشرف التحية العسكرية .
وعندما دخل جدي المسجد استدار نحو قائد الحرس وسأله عما إذا كان لايعتقد بأن المراسم العسكرية غير مناسبة في مكان مقدس.
وتقدم نحو المسجد ، وماكاد يخطو بضع خطوات ، حتى ظهر رجل وراء الباب الكبير إلى اليمين : لم يكن في حالى طبيعية . وكان يمسك بسلاح. وقبل أن يستطيع أحد أن يبدي أية مقاومة ، أطلق النار. لم يره جدي أبداً . وكان على بعد مترين من القاتل . فأصيب برأسه ، فانهار وقد انتشرت عمامته على الأرض. لم أتبين فوراً ما قد حدث خلال لحظة كانت تبدو دهراً كاملاً ، بقي القاتل جامداً غير قادر على الحركة .
إلى جانب قدمي ، كان شكل أبيض مسجى على الأرض . وبقيت لا أفهم أبداً . وفجأة استدار الرجل وفر هارباً. فانطلقت في أثره في داخل المسجد . وفي الوقت الذي انطلق مسرعاً ، رأيت من طرف عيني كل أصدقاء جدي يهربون في كل اتجاه. إنني ما زلت أراهم، هؤلاء الكبراء وأعيان الدولة وهم يخفون وجوههم ويفرون كأنهم العجائز المذعورات . إن هذه الصورة سوف تبقى محفورة إلى الأبد في ذاكرتي أكثر من صورة القاتل، لأنها كانت إلى حد كبير البرهان الأكيد الدائم على ضعف الولاء السياسي وسرعة زواله.

كل ذلك حدث في جزء من الثانية . وكان القاتل يجري في خط متعرج دون أن يعرف في أي اتجاه يفر. وكانت طلقات الرصاص تلعلع في كل مكان داخل المسجد . وفجأة التفت ، بعد أن حوصر في زاوية، فاستشففت وجهه وفمه الأدرد الخالي من الأسنان وكانت عيناه تلمعان والسلاح مازال في يده اليمنى عندما رأيته يسدده نحوي وقد أصبت بما يشبه مفعول التنويم المغناطيسي، لقد حدثت الأمور بسرعة: رأيت الدخان وانطلقت الرصاصة فترنحت وقد تزعزعت أركاني من جراء صدمة كبرى أصابت صدري . فتساءلت عما "إذا كان ذلك هو الموت".
وانتظرت ولكن لم يحدث شيء لقد حدثت معجزة. فقد ضربت الرصاصة أحد أوسمتي ثم ارتدت. لقد سلمت من الأذى بفضل جدي ولاشك. لأن البزة العسكرية قد أنقذت حياتي.
عندما سقط القاتل بدوره كان مستمراً في إطلاق النار... فاستدرت عندها نحو جثة الملك. لقد كنت مصاباً بدوار في الرأس عندما جثوت إلى جانبها ولكن كنت بشكل خاص غاضباً مغتاطاً، فلم أفكر إلا بشيء واحد وهو أن هؤلاء الرجال الذين أحبهم جدي ورفع مقاماتهم أو ساعدهم، قد هربوا، وفككت أزرار ثوبه بينما كان الطبيب يفحصه . وكنت أرجو من صميم القلب أن يكون ما زال ثمة أمل. ولكن كان كل شيء قد انتهى. فأعدنا تغطيته بثوبه واستعملنا أحد البسط كمحفة لنقله إلى المستشفى. وكنت أرغب في البقاء بالقرب منه ولكن الطبيب أقنعني بلطف بالعدول عن ذلك، ثم حقنني بابرة لتجديد نشاطي كم قال. وبقيت لا أفهم أبداً ماذا حدث إلى أن حانت لحظة الذهاب إلى المطار عندها فجأة أحسست بنفسي وحيداً ، وحيداً تماماً!







رد مع اقتباس
قديم 05-16-2011, 12:15 PM رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
أمان
عضو ملكي
 
الصورة الرمزية أمان
إحصائية العضو






 

أمان غير متواجد حالياً

 


افتراضي



****
انتحيت طوال الرحلة مكاناً منعزلاً بعض الشيء. في هذه اللحظة التي اتصفت بالإرتباك والتشوش الذين لهما* لم يكن ليستطيع أحد أن يسرّي عني أو يشدد من عزيمتي أو يقوي من معنوياتي . أبدا لا أحد كان في مقدوره أن يفعل ذلك ... ولقد عمد بعضهم من باب اللياقة المحضة إلى الإعراب لي عن تعاطفهم ومشاركتهم لي في مشاعري .


وقفت وحيداً على مدرج المطار أتحسر بشدة على غياب والدي الذي كان يتلقى العلاج في سويسرا . لقد كان ذلك أول درس لي في الشعور بالعزلة.

وقد كنت أحس أيضاً بانحطاط شديد في القوى . وعندما أفكر في الحياة التي عشتها منذ هذا اليوم أدرك أن الثمن الذي كان علي أن أدفعه لم يكن العمل
الدائب الموصول الذي أحبه ولا متاعب الصحة التي لاحقتني ، ولكنه ثمن أشد

فداحة وأشق احتمالا. لقد كنت طوال مدة حياتي محاطا بطائفة لا حصر لها من

الناس، كنا نتكلم معا ونضحك معا ، ولكن على مدار السنين وفي قرارة نفسي
كنت وحيدا كرجل غريب .


لقد وقفت على مدرّج المطار وأنا ما أزال تائه الفكر من جراء سرعة تتابع

الأحداث ، عندما اقترب مني رجل يرتدي الزي العسكري لسلاح الطيران. كان
باستيحاء ، وبلهجة اسكتلندية ظاهرة :

"هل تريدون أن تأتوا معي يا مولاي ،فلسوف نقوم بالرحلة معاً ؟" وقادني
أمام طائرة ذات محركين من طراز دوف ، ودعاني لأن آخذ مكاني إلى جانبه . ثم أدار المحرك وأقلعنا إلى عمان .

هذا الرجل هو في الواقع الرائد جوك دالجيش من ضابط السلاح الجوي
الملكي البريطاني . ولم أتصور في هذا اليوم الذي طويت فيه إحدى صفحات
التاريخ ، أن دالجيش سوف يعلمني قيادة الطائرات بعد سنتين، وأنه بعد ذلك
بسبع سنين كان علينا جوك وأنا وفي نفس الطائرة ، أن نقاتل دفاعاً عن حياتينا،

طائرات الميج السورية التابعة لعبد الناصر التي كانت تهاجمنا.

وفي اليوم التالي حملت سلاحاً لأول مرة في حياتي .

لقد مات جدي في مدينته العزيزة القدس "أجمل مدن الدنيا" كما كان يحلو
له أن يقول . لقد كان حبه الأول للحجاز الذي ولد فيه وهو مساحة صحراوية
تقع في شمالي اليمن تتوسطها مكة المكرمة ، مهد الإسلام ، ومن الحجاز بدأ جدي
مسيرته نحو الشمال في عهد الثورة العربية الكبرى .

ثم مرت الأيام واستقر في الشمال ، وحمل حكمه السلام والاستقلال لما
يسمى في يومنا هذا الأردن . ونما حبه للقدس إذ كان رجلا متديناً شديد الورع
والتقوى . فهو لا يدخل أبداً أية مدينة قبل أن يستعلم عن معناها الروحي . ولكن
القدس كانت شيئاً آخر: فالأماكن المقدسة فيها والأسوار القديمة والمآذن المتعالية
وأشجار الزيتون في الجسمانية ، والأسواق الضيقة التي تحيط بدرب الآلام كانت
هي أيضاً مهد الأمل والإيمان . فعندما تشرق الشمس ، ويبترد الهواء فيها ، تغدو
مدينة فريدة في نوعها .

والأردن أيضاً بلاد جملية تمتد فيها الصحارى إلى ما لا نهاية ، ويسرح فيها
البدو، ولكن الجبال الواقعة في شمالها مغطاة بالغابات الخضراء حيث يجري نهر
الأردن، فهي أراضي خصبة صيفياُ وشتاءً . إن بلادي ذات جمال يستحوذ على
العقل ، وتشع فيها بصمات قوية من معاني الخلود. إنها آخر ما تبقى من عالم
الأمس بما وسمت به من آثار تمثل ما كان قديماً يشكل إحدى الإمبراطوريات
العظمى . انني أحب كل شبر من الأرض فيها. وأحب عمان حيث ولدت في 14
تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1935 عمان التي شاهدتها تنمو تمضي السنين . وانني
لأشعر دوما بنفسي تفيض بالإعجاب والافتتان كلما عاودت مشاهدة مدينة البتراء
القديمة ذات المعبر الضيق الذي كان يمكّن إثني عشر رجلاً من النبطيين ، من
مقاومة جيش بأكمله كما انني أحس بمشاعر الارتياح والدعة كلما وجدت نفسي
تحت الخيام الرمادي لقبائل البادية






رد مع اقتباس
قديم 05-16-2011, 12:16 PM رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
أمان
عضو ملكي
 
الصورة الرمزية أمان
إحصائية العضو






 

أمان غير متواجد حالياً

 


افتراضي





* لقد ارتقى العرش جلالة والدكم الملك طلال ، وأصبحتم تبعاً لذلك ولياً للعهد ...


_ لقد رغب جدي في أن ألتحق بكلية هارو، ولكنني أقنعته قبل وفاته بوقت
قليل بأن كلية فيكتوريا أكثر ملاءمة لي. فقد كنت أشعر بطيب الإقامة في
الإسكندرية التي أمضيت سنتين فيها . ولقد قبل جدي بوجهة نظري . ولكن
استشهاده غيّر الكثير من الأمور . غدا سفري إلى مصر غير ذي موضوع بعد أن
أصبحت ولياً للعهد ، نظراً لأن أعدًّل من مشروعاتي .

استمر والدي في الإقامة في أوروبا ، وما لم يعد إلى الأردن مسئولياته
الجديدة كملك ، فقد كان من غير المستطاع بالنسبة الي أن أغادر البلاد . كانت
التعليقات لا تتوقف والدسائس تحاك وقد عاد خالي الشريف ناصر من العراق
حيث كان يقيم ، ومع إبن عمي الشريف زيد، شكلنا نحن الثلاثة فريقاً صغيراً .
وقمنا بزيارة كافة أرجاء البلاد . وتحدثنا مع الآلاف من الناس. وكنا نقضي الليل
غالباً في البادية . فكان ما أقدمنا عليه تجربة تستحق الإهتمام .

وأخيراً عاد والدي إلى عمان وأصبح لزاماً علي أن أسافر إلى إنكلترا
للإلتحاق بالمدرسة الجديدة التي كنت لا أعرف فيها أحداً باستثناء إبن عمي
فيصل* كان الطلاب يمارسون فيها لعبة الرجبي بدل كرة القدم . وقد بدت لي
اللغة الإنكليزية فيها صعبة الاستيعاب .

كانت هارو المؤسسة العلمية المختارة. ولا بد لي من الاعتراف بأنني كنت فيها غير سعيد في البداية. ولم يكن ذلك عائداً تماماً إلى خطأ شخصي مني فقد كان نطقي للغة الانكليزية أسوأ مما كنت أعتقد، إذ بعد سنتين قضيتهما في المدرسة الانكليزية في مصر وجدت هذه اللغة في هارو مختلفة تماماً. كان التحدث بالإنكليزية في الإسكندرية غنائياً وبطيئاً، أما في هارو فقد كان التحدث يجري بسرعة فائفة. وفي المرة الأولى التي رغب فيها الطلاب في توجيه الكلام إلي لم أفهم نصف الكلمات التي قيلت.
وفي الصف كان الوضع أسوأ. فالصعوبات كانت من الشدة إلى الحد الذي لم أتمكن فيه من حفظ دروسي على الوجه الصحيح . كانت اللغة العربية في الإسكندرية هي المادة الرئيسية، أما الآن فقد كان علي أن أركز جهدي على اللغة الإنكليزية . في هارو كان التاريخ والأدب الإنكليزي المادتين الأكثر أهمية. ولقد استفدت كل ما لدي من طاقة لأتمكن من الفهم والحفظ. إذ كان لابد لي من بلوغ الغاية.

ولقد وجدت مشقة كبيرة من الناحية النفسية في التكيف مع هذا النوع من الحياة. إذ انفتح أمامي عالم جديد بتقاليده وعاداته وأنظمته. ما أعظم الفارق بين هارو وكلية فيكتوريا! لقد كان علي أن أعيد تعلم كل شيء. فقد كنت كالحديث العهد بالجندية. ولكن هل يستطيع المرء أن يكون جندياً في السادسة عشرة من العمر؟. ومن الغريب أنني كنت أنضج وأرشد من رفاقي. فالتربية التي نشأت عليها، والعالم الذي تدرجت حياتي فيه قد جعلا مني رجلاً بين أولاد . وربما كان هذا هو السبب الذي من أجله لم أقبل فوراً بين أصدقائي الجدد. على الأقل هذا ما أحسست به ويخيل إلي أنهم اعتبروني تلميذاً مثيراً للفضول والإستغراب فقد كنت دوماً قابعاً في زاويتي مع إبن عمي، في حالة من إنقباض الصدر بعض الشيء. كنا نحن الإثنان الوحيدين اللذين لم يطلق عليهما ألقاب. ذلك لأن فتيان المدارس الخاصة في بريطانيا يراعون منتهى الدقة فيما يختص بشئون البروتوكول، أكثر منا نحن نزلاء القصر في عمان. وبدلاً أن ينادوني باسمي، حسين فقط، كانوا يفضلون غالباً ألا يكلموني على الإطلاق. حاولت أن أندمج بهم، أن أقيم علاقات شخصية معهم، أن أكون مستريح النفس منشرح الصدر حقاً. أثناء تناول الطعام كنت أبحث عن إبتسامة ودية بين العديد من الوجوه التي كانت تحيط بي. وحاولت أن أفهم ما يمكن أن يباعد بيننا. كانت علائم الثقة بالنفس تفيض بها وجوههم وكان لكل منهم حلقة من الأصدقاء خاصة به، وقد وجدتهم في الواقع يتكلفون التباهي ومجاراة الافانين الشائعة بعض الشيء. اقتصرت أحاديثي معهم طوال أسابيع طويلة على كلمتي (صباح الخير) و (مساء الخير) وقد كنت أستشعر بسعادة بالغة عندما كانوا يرتضون الرد علي.

حتى الطعام كان مختلفاً، ومع ذلك فقد كان أفضل مما يقدم في المدارس الأخرى. ولكنني افتقدت الأطعمة الأردنية وكذلك الشاي الأصلي والقهوة الأصلية. فقد كانت بريطانيا العظمى آنئذ خاضعة لنظام التقنين. وكان لابد من البطاقات للحصول على الحلوى، ولم يكن من حقنا أن ننال إلا بيضة واحدة في الأسبوع. وقد اعتدت على ذلك شيئاً فشيئاً، وأصبحت أتذوق الطرقة الانكليزية في طهو الطعام، مهما بدا ذلك غريباً. وكنت أقدر المواعيد الدقيقة المنتظمة في تقديم الوجبات، بدءاً بالفطور، ثم بالوجبة الخفيفة في الساعة الحادية عشرة، ثم بطعام الغداء، فالشاي، وطعام العشاء، وجاء يوم لم يعد الدراق مقنناً، فتراكض عليه الناس جميعاً. ومنذ ذلك الوقت أصبحت كلما آكل الدراق، أتذكر العلب المحفوظة منه التي كنت آخذها إلى غرفتي لآكلها في المساء .

ورويداً رويداً بدأت الأمور تتطور دون أن أشعر بها، فتارة كنت أخلو إلى نفسي، وتارة كنت أجد نفسي بين طائفة من الأصدقاء. وجعلت أمارس الألعاب الرياضية بازدياد مستمر وكذلك لعبة الرجبي التي اكتشفتها بعد بضعة أسابيع .

وانني لأذكر الفرح الذي غمرني في اليوم الذي قام فيه فتى بقذف الكرة إلي وهو يصيح : "هيا يا حسين لقد حان دورك" .

لقد كان لي غرفة صغيرة أسوة بجميع الطلاب. وعلى الحائط حفرت الأحرف الأولى من اسمي، كانت حجرة غريبة ذات أغرب سرير عرفته في حياتي فهو مصنوع من الحبال والقماش لكي يدمج في الحائط، الأمر الذي كان يمكنني من التصرف بكامل الغرفة خصيصاً للعمل فحسب. وكان عندي كبقية رفاقي، مقعد وخزانة للثياب وطاولة صغيرة. كان هنالك فارق واحد: وهو بساط صغير جئت به من الأردن .







رد مع اقتباس
إضافة رد

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:27 PM بتوقيت عمان

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. Designed & TranZ By Almuhajir
[ Crystal ® MmS & SmS - 3.6 By L I V R Z ]
mess by mess ©2009