* لايعرف الناس ، ياصاحب الجلالة ، إلا القليل عن أسرتكم وعن طفولتكم ، ويقال بأنكم كنتم من الناس الفقراء، وأن موارد أسرتكم كانت محدودة .
- كانت طفولتي بسيطة وجد سعيدة ، وكنت دوماً شديد التعلق بوالدي. أما والدتي الملكة زين التي بقيت دوماً إلى جانبي والتي تعيش في الوقت الحاضر ، في عمان فامرأة تثير الاعجاب ، إنها ليست جميلة فحسب، بل هي أيضاً موفورة الذكاء، وكانت حكمتها وشجاعتها ونصائحها ذات تأثير حاسم بالنسبة إلي.
لم تكن أسرتنا في الواقع تعيش في بحبوحة ، وهذا أقل ما يمكن قوله، ولا نبالغ إذا قلنا بأننا كنا فقراء. في عام 1950، عندما كان والدي ولياً للعهد، كان يتقاضى من الدولة راتباً مقدارة مائة دينار، وقبل ذلك ، في الأربعينات ، كان الراتب أقل بكثير. وبالطبع لم نكن نملك ثروة شخصية .
وإليك قصة تصف لك مدى فقرنا، بعد سنة من مجيئي إلى هذه الدنيا، ولدت للأسرة طفلة صغيرة، إلا أنها ماتت بعد شهرين من ولادتها ، من جراء البرد القارص في عمان ، فقد قضى عليها مرض ذات الرئة، لأننا كنا لانملك من الموارد ما يسمح بتدفئة بيتنا الصغير.
وإنني لأذكر رحلة قمنا بها بعد بضع سنين ، لزيارة ابن عمي فيصل في بغداد، فتعلقت نفسي بدب ضخم من القطيفة، ولم أكن أرغب في الانفصال عنه بأي ثمن، ولكن في لحظة العودة إلى عمان ، اضطررت مع ذلك إلى التسليم بتركه لابن عمي. ولقد تمزق قلبي من جراء ذلك ، وفي اليوم التالي، اشترت لي أمي دباً مماثلاً بعد أن باعت آخر حلية كانت في حوزتها .
لقد كان تشجيعها لي طوال عمري، يشد من عزيمتي في خلال الأزمات والفترات العصبية. ومن المؤكد أنه لولا تضحية أمي واخلاصها وصبرها لما كان في مقدور أبي أن يحكم بلادنا حتى خلال الفترة القصيرة التي دام فيها حكمه. ولو أن أبي الذي كان يعرف أمي إلى جانبه، لم يتدخل بعزم وتصميم بعد إغتيال جدي في تموز (يوليو) من عام 1951، لكان من المحتمل أن يكون تاريخ الأردن اليوم مختلفاً عما هو عليه الآن.
عندما كنت صبياً صغيراً ، كنا نقيم جميعاً في دارة متواضعة تتألف من خمس حجرات مع غرفة استحمام واحدة تحيط بها قطعة أرض صغيرة في جبل عمان، أحد تلال العاصمة السبعة، لقد كان ابن عمي فيصل ملك العراق يوحي إلي بانطباع أنه يعيش في عالم غني ثري، وانني لأذكر زيارة أخرى قمت بها إلى بغداد عندما كان لي من العمر عشر سنين. فقدم لي فيصل، بمثابة هدية الوداع، دراجة متألقة متلألئة، وقد كان لدي شعور بأنني لن أمتلك أبداً في حياتي شيئاً أجمل منها. وطوال سنة كاملة بقيت الدراجة محتفظة بالجمال واللمعان اللذين كانت عليهما في اليوم الأول، وكنت في الصباح والمساء ، أدلكها وألمعها وأجعلها تضئ وتشع.
وفي أحد الأيام جاءتني أمي وقالت لي بلطف: "إنني أعرف بأنني سوف أشق عليك ، ولكن وضعنا المالي يبعث على الهم والقلق ، فلكي نستطيع الخلاص من هذه الحال، لابد لنا من بيع بعض المتاع الذي لدينا، فهل يضايقك يابني العزيز أن نبيع دراجتك؟" .
ولقد جاهدت نفسي لاحتباس دموعي . إنهم يستطيعون بيع كل شئ ولكن ليس دراجتي!
وقالت لي أمي من باب التسرية عني وتعزيتي " انك تعرف بأن عليك أن تواجه وتتغلب على الكثير من خيبة الأمل ، كن قوياً ، فسيأتي يوم تنسى فيه الدراجة، وتقود أجمل السيارات".
لقد قدمت أجمل السيارات فعلاً فيما بعد، ولكنني لم أنس أبداً هذه الدراجة التي بيعت في اليوم التالي بخمسة دنانير.