التوكيد
اعلم أن مما أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده أن هاهنا فروقاً خفية تجهلها العامة وكثير من الخاصة ليس أنهم يجهلونها في موضع ويعرفونها في آخر بل لا يدرون أنها هي ولا يعلمونها في جملة ولا تفصيل.
روي عن ابن الأنباري أنه قال: ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس وقال له: إني لأجد في كلام العرب حشواً: فقال أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك.
فقال: أجد العرب يقولون: عبد الله قائم.
ثم يقولون: إن عبد الله قائم ثم يقولون: إن عبد الله لقائم فالألفاظ متكررة والمعنى واحد.
فقال أبو لعباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم: عبد الله قائم إخبارعن قيامه وقولهم: إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل.
وقولهم: إن عبد الله لقائم جواث عن إنكار منكر قيامه فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني.
قال: فما أحار المتفلسف جواباً.
وإذا كان الكندي يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أومعترض فما ظنك بالعامة ومن هو في عداد العامة ممن لا يخطر شبه هذا بباله.
واعلم أن هاهنا دقائق لو أن الكندي استقرأ وتصفح وتتبع مواقع إن ثم ألطف النظر وكثر التدبر لعلم علم ضرورة أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل.
فأؤل ذلك وأعجبه ما قدمت لك بكرا صاحبي قبل الهجير إن ذاك النجاح في التبكير وما أنشدته معه من قول بعض العرب: فغنها وهي لك الفداء إن غناء الإبل الحداء وذلك أنه هل شيء أبين في الفائدة وأدل على أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل من أنك ترى الجملة إذا هي دخلت ترتبط بما قبلها وتأتلف معه وتتحد به.
حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغاً واحداً وكأن أحدهما قد سبك في الآخر.
هذه هي الصورة حتى إذا جئت إلى إن فأسقطتها رأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول وتجافى معناه عن معناه ورأيته لا يتصل به ولا يكون منه بسبيل حتى تجيء بالفاء فتقول: بكرا صاحبي قبل الهجير فذاك النجاح في التبكير وغنها وهي لك الفداء فغناء الإبل الحداء.
ثم لا ترى الفاء تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة ولا ترد عليك الذي كنت تجد بإن من المعنى.
وهذا الضرب كثير في التنزيل جداً من ذلك قوله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم " وقوله عز اسمه: " يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور " وقوله سبحانه: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " ومن أبين ذلك وقوله تعالى: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " وقد يتكرر في الآية الواحدة كقوله عز اسمه: " وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم " وهي على الجملة من الكثرة بحيث لا يدركها الإحصاء.
ومن خصائصها أنك ترى لضمير الأمر والشأن معها من الحسن واللطف ما لا تراه إذا هي لم تدخل عليه بل تراه لا يصلح حيث صلح إلا بها وذلك في مثل قوله تعالى: " إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " وقوله: " أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم " وقوله: " أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب " وقوله: " إنه لا يفلح الكافرون ".
ومن ذلك قوله: " فإنها لا تعمى الأبصار ".
وأجاز أبو الحسن فيها وجهاً آخر وهو أن يكون الضمير في إنها للأبصار أضمرت قبل الذكر على شريطة التفسير.
لحاجة في هذا الوجه أيضاً إلى إن قائمة كما كانت في الوجه الأول فإنه لا يقال: هي تعمى الأبصار كما لا يقال: هو من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع.
..يتبع