رجعت الشتويه
وتغني فيروز قائلة «رجعت الشتوية» والشتوية ترجع كل عام* وفي كل رجوع تزداد الهموم في القلب* لأن السنوات تتراكم على الصدر والقلب* وكأن العجائز في قريتنا يخافون الشتوية* لأنها تحمل معها الذين
شاخوا كثيرا* كانت أمي تخاف من الشتاء* وتسأل وهي تزيح منديلها الحريري قائلة: من .. سيموت هذا العام .. ومات خالي علي ذات شتاء بعيد .. وبكت أمي كثيراً .. كما بكيت أنا .. مات خالي علي* وكان الهواء الشرقي يمر كالمجنون في الزواريب* وكان الناس ينتشرون على أسطحة بيوتهم كي يعرجلوها* خوفاً من المطر الذي لا يرحم* فالأسطحة من طين* كنا نرش السطح بالتبن ونعرجل* ورغم ذلك كان المطر يجد طريقاً له من بين الشقوق* وكان أبي يوزع الأوعية في البيت فأسمع سقوط قطرات المطر في تلك الأواني* وكانت الموقدة تشيع شيئاًمن الدفء في فضاء البيت الضيق* وأسمع قرقرة «الدست» والحنطة البلدية ترقص بحباتها السمراء وأمني النفس بوجبة شهية من «زوم» القمحية* ولا يزال الهواء الشرقي في الخارج يعوي كالذئاب * أتطلع الى سراج بيتنا بضوئه الخجول* وأبي يتكوم على اللباد ظلاً لكائن حزين* كان أبي يضع كفه تحت ذقنه* كنت أظنه يتأمل ويفكر* وكنت مخطئاً لم يكن يتأمل* فقط كان حزيناً .. نعم .. كان حزيناً وانتظرت أن يصل السهارى* ولم يأت أحد* لأن الهواء الشرقي ألزم الجميع أن يظلوا حول مواقدهم* كنت حزينا* لأنني أحب أحاديث الشتاء حول المواقد* كان أبي لا يزال يجلس حزيناً قريباًمن الموقد* رغم أن «دست القمحية» صار ناضجاً* تقوم أمي وتأتي بعدة أرغفة* وكان هناك كرة من الزبدة* تصب لي أمي «طبسية» وتضع قليلاً من الزبدة فوقها* وتناولني بصلة زرقاء بلدية ورغيفاً من الخبز* وأبي لا يزال قريباً من الموقد* وأمي تدعو الله أن يوفقني* ولكن يبدو أن السماء في تلك الليلة كانت مغلقة* وأشفط ما في تلك «الطبسية» من زوم* وكان الهواء الشرقي لا يزال في الخارج يعدو كرجل محموم* وأقول «رجعت الشتوية» والشتوية تعود كل عام* أذكر أمي الآن* وأذكر أبي* وأذكر خالي علي الذي مات ذات شتاء* وأذكر البؤساء الفقراء الذين غادروا دون وداع* وأتطلع اليوم الى جسدي المتعب* وأتأمل روحي المنهكة* وأنا الآن في بداية الشتاء* وأسأل : هل سأرحل قريباً..? أنا لا أخاف الموت.. ولكنني أخاف السنوات القاصمة الظهر* أخاف المرض والضعف* وأخاف الفقر والفقر يا صديقي القارئ أن تبحث عن.. ولا تجده .. وماذا أقول ..?!?