عرض مشاركة واحدة
قديم 02-04-2012, 05:33 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
م .نبيل زبن
المؤسس
 
الصورة الرمزية م .نبيل زبن
إحصائية العضو







 

م .نبيل زبن غير متواجد حالياً

 


افتراضي


3-الفنان ناجي العلي
قد يكون من المفيد الخروج عن مألوف الكتابة بعض الوقت، وكتابة حوارية نثرية حول الشاهد والشهيد الفلسطيني العربي العالمي "ناجي العلي" في الذكرى السنوية على استشهاده والتي تحمل رقم 24 عام على مغادرة الجسد، وبقاء الروح في وهج رسومه ومعانيها ورسائلها دائمة الحيوية في كل زمان ومكان. والدخول في مساحة الاستثناء الظاهر في المشهد العربي من المحيط إلى الخليج الذي اسمه في مجاز القول: "ثورات الربيع العربي"، باعتبار "ناجي العلي" في بعض الأحيان صورة رمزية لها وحالة استثنائية أيضاً. كان وما زال في لوحاته بمثابة المُفجر الرمزي المتوارية كتضمينات نصيّة بصرية في متن الرسوم الكاريكاتيرية التي ابتكرها والمعبرة عن بشكل ما أو بآخر عن الثورات والانتفاضات الفلسطينية والعربية. وجدير بالكتابة المستدامة عنه من كونه بحر فيه متسع لمقول قول، وفسحة مُتاحة مع طيات ذكرى وصيف كل عام.

لم تُخطئ فراسة الفنان الشاهد والشهيد "ناجي العلي" رسام الكاريكاتير الفلسطيني التي رسمت أبجدية الصراع العربي الصهيوني وحقيقة مفاعيله، بوضوح الحبر الأسود على بياض الورق. فاضحة الدول والشعوب والأحزاب والأفراد في تصويرهم وأفكارهم وخلفياتهم ووجوههم القبيحة الذين دخلوا في معامل اختباره، باعتباره موئلاً جامعاً وذاكرة بصرية واسعة الطيف، تلم بأشتات الصراع ومكوناته ومراحله، وتدخل في متن مفاصله الخطرة عابرة جميع الحواجز في مضامينها ومعانيها، وخطوطها الحمراء الممنوعة التي كلفته حياته في سردية موت واستشهاد درامي في مدينة الضباب، والتآمر الدولي بيد قاتل محترف و"شبيح" مأجور في مدينة التآمر الدولي "لندن" يوم الثاني والعشرين من تموز ليدخل في غيبوبة الموت حتى وافاه الأجل في التاسع والعشرين من شهر آب للعام 1987، كدليل مادي على مصداقية مواقفه، ودوره الوظيفي كفنان وإنسان مُقاوم على جبهة الثقافة والفن، وحالة استثناء بشرية مُعبرة عن مناطق تفكيره ومصداقية مواقفه وأنماط حياته.


لقد كانت اللوحات الترسيمية الخطية "الكاريكاتيرية" سلاحه الأوحد الذي وجد فيه مساحة مُتاحة لقتال من نوع فريد، سلاح قادر على صنع أفعال تفوق صمت الكلام والمدافع في لحظة مصيرية فاصلة من حياتنا العربية، "نحن المدافعين الفاشلين عن القضية". خاضها "ناجي العلي" باقتدار تقني وفكري، وبساطة تأليف وتوليف ولغة سرد بصري عفوية. لغة تشكيلية سهلة تُكرس أبجدية جديدة في عوالم الصمت والقتل والانحياز للآخر الصهيوني، والمدعمة بكل وسائل إفناء الشعب العربي الفلسطيني المتاحة، من تكنولوجيا الدمار الأمريكي الأوربي الغربي والتخاذل العربي وسواه بجميع لغاته وانتماءاته وأيديولوجياته. رسوم تختزن همومنا وذاكرتنا الشعبية المثخنة بالجراحات، وحُبلى بمجاز القول البصري وترجمة عملية للمواقف دون مواربة أو مجاملة أو خنوع، لغة سردية مُفارقة لنجومية الشهرة والدعاية الشخصية ومخاطر مقولات الأنا الذاتي، وهي بطبيعة الحال ليست نوعاً من الترف الفكري أو دعابة لتسلية عيون المتلقين، ولا تزيناً أنيقاً لرغبة حاذقة لمجلة هنا أو صحيفة عربية هناك.


إنما هي منشور سياسي فكري تحريضي تعبوي بكل تفاصيله، وبمثابة (مانفيستو) كفاحي أممي قدمه لجميع الناس من عرب وأعاجم. لكل الفئات والأديان والانتماءات الحزبية والأيديولوجية والأعمار والأجناس، المتعلمين والمثقفين وأشباه المثقفين "النخب" منهم والواقفين على أعتاب الحكام، أو المندمجين بمعابر صناعة الثقافة ومعارك الوجود. أو الفقراء المحرومين المتمسكين بالعروة الوثقى، المعتصمين بحبل الأمل غير المتفرقين، أو جموع المقاومين وعلى الدوام لكل آلات الدمار الأمريكية والأوربية الغربية، الواقفين كالأشجار بصدورهم العارية وتوق للجهاد والاستشهاد وبأيديهم حفنة من حجارة الوطن.


رسومه أشبه ببيان ثورة ضد أعداء الأمة العربية ومقدساتها المسيحية والإسلامية العربية والفلسطينية خصوصاً، ولكل من تسول له نفسه المساس بالقضية الفلسطينية التي كانت وما زالت القضية المركزية للأمة العربية شاءت الأنظمة العربية والأعجمية أو أبت. رسوم تتجاوز المحظور في نهجها وتفاعلاتها مع حدود الجغرافية السياسية المصطنعة التي أوجدها الاستعمار الأوربي والأمريكي الغربي، في مسلسلاته العربية المهزلة وحلقاته المتصلة في سياسة فرق تسد، وتهيم في نشر هوى اتفاقيات سايكس بيكو القديمة الجديدة في لبوس مواكبة لرغبة العصر العولمي والأمركة المراعية لتبادل المنافع، ولعل دولة جنوب السودان ترجمة معاصرة لهذا التوجه من الفوضى الأمريكية الخلاقة، أو عبر الكيان الصهيوني وراعيته المعاصرة أيضاً الولايات المتحدة الأمريكية.
رسومه كتاب مفتوح على القراءة، وهو سِفر خطي بالأسود بالأبيض لا مكان فيه للرمادي والضبابي، وأنه بذلك يوحي إلينا أن لا حلول وسط، ولا مكان للتفاوض مع أعداء الداخل الفلسطيني وخارجه من عرب وأعاجم، ولا مناص من تمثل مقولة :"أن نكون أو لا نكون" وتخيرنا الطوعي لصيرورة وجودنا، وتفاضل القيم ما بين دروب الحياة الكريمة، أو الموت المُشرف دفاعاً عن حياض الوطن. والوطن لديه ليست فلسطين بحدودها الجغرافية وحسب. إنما فلسطين بالنسبة إلية هي:" الوطن العربي من محيطه لخليجه" وهي اسمه الحركي والسري، وبما يحمل في طياته من شجون آلامه، المُختلطة بآماله ومعاركه التي يخوضها بما سموه اصطلاحا الصراع العربي الصهيوني.


هاجسه المواطن العربي والوطن بجميع تفاصيله الجمالية، وعواصمه الثكلى التي تأخذ منه كل مأخذ. رسومه رصاصات واضحة البيان في أزمنة الصمت العربية والإسلامية، مصوبة لهدفها الواضح والموجه إلى أعداء الأمة العربية، يصوغها في تصويرية بصرية مفتوحة على الذاكرة، ومفتحة للعقول والقلوب ليس فيها محاباة وخوف من أحد، فيها الحقيقة العارية المفهومة والواضحة من قِبل الصغير والكبير من كل الفئات والشعوب والطبقات حكاماً ومحكومين. ومدينة القدس العربية في ثوبها الإسلامي القشيب، تحتل مساحة من ذاكرته وريشته، ولما لا فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى نبينا العربي محمد صلوات الله عليه، مدينة جريحة مسفوحة دمائها على مقاصل العدو الصهيوني الغربي والأمريكي.


كان الشهيد "ناجي العلي" في ذاته الجهادية استشهادي من طراز مميز، ورسومه انعكاساً مثيراً لواقع عربي وفلسطيني مرير، مليء بدروب الآلام الفلسطينية العربية والذكريات والأحداث الجسام، وعنواناً يومياً لسردية قصص البطولة التي قدمتها قوافل الشهداء. يُقرأ من خلال خطوطه وملوناته المرفقة التوضيحية، عناوين لطقوس درامية فيها اختصار مجازي لكتب ومقولات، وترجمة واقعية للمواقف العبثية للمتاجرين بالقضية الفلسطينية والدماء وتعرية، لا يُهادن أحدا، يعرف ما يُريد ولا يقبل الوقوف على أطلال الخراب متفرجاً. يصف المأساة بفهمه النضالي وتبصره لمآل واقعه وحكامه بتهكمية لاذعة، يُذكرنا بالمآثر التاريخية والمقولات الشعبية، يدخلنا عنوة في مقولة (شر البلية ما يُضحك)، لكنه ضحك من نوع آخر، ضحك يختزل حياتنا في جمل أحياناً، وخطوطا وملونات سوداء فوق صريح الأبيض في كثير من الأحيان.


الهم العربي هاجسه مُجسداً بتفاعلات الصراع العربي الصهيوني، موقوفاً على كشف دقيق للأكاذيب والمواقف الزائفة، والتشدق اللفظي الكلامي والممارسات الخاطئة، والسابحة في خفايا النفوس والرؤوس، باعتبارها مجاله الحيوي في رسومه. لا يجد نفسه بعيداً عنها، يدخل محراب الحدث مقاتلاً شرساً بأسلحته القتالية الفاعلة، فكرة وخطوطا وملونات سوداء، تصدح بالحقيقة الواضحة التي لا تحتاج لتـأويل وتسويف. يقول ما يصعب قوله لدى الآخرين، ينشر أسراره وكتبه وأسفاره، يُبشر بالأمل في لحظات اليأس المطبق.


العواصم العربية موطنه، والشعوب العربية المقهورة أهله وذويه، لا يخضع لمقاييس قهرية أو دبلوماسية، ولا تقف الحدود الكرتونية التي أوجدها الاستعمار في (سايكس- بيكو) عائقا في وجهه وانتشاره. تراه في جميع الأوطان العربية جزءا لا يتجزأ من شعوبها. منحاز كليا للفقراء والكادحين وللرجال الأوفياء، لا تغريه الإتاوات والرشاوى، ولا المناصب وظلم ذوي القربى، مُجاهد واستشهادي مميز في طقوس مميزة أيضاً. عناوينه دائمة التوهج في كل مكان، كانت بيروت موطئ قدمه وساحة انتشاره، والقدس وفلسطين جهاداً لا ينتهي في حدود دمه المسفوح غِيلة في أزقة مدينة الخراب العدواني (لندن).

دمه ما زال يانعا في أحفاده، ورسومه الماثلة في مساحة الذاكرة البصرية والمعرفية لأجيال فلسطينية تعلمت دروس المقاومة من خلال رسومه، الذين تتلمذوا على يديه وبياناته القتالية، كان وما زال تذكرة العبور المعلن لجراحتنا العربية، وأسم حركي متنوع المسميات والأمكنة في أيامنا وليالينا العربية الكالحة والمظلمة، يصيب منّا القلوب والعقول ويُعمل سلاحه المتواضع خط ولون متساوق مع سلاح الحجر في الضفة الفلسطينية الأُخرى، وكيف لا وهو الناطق الرسمي الدائم باسم انتفاضة أهلنا في الأرض المحتلة منذ العام 1976 وحتى لحظة استشهاده، وما زالت رسومه تصدح بفصيح القول والبيان.







رد مع اقتباس