يظهر بحث اعدته الباحثة الصهيونية غاليت الليطاني، مدى الاهتمام الذي ابداه الفلسطيني القديم بالصحة. وحرصه على النظافة، سواء بلجوئه للروحانيات، كاستخدام التمائم، او العلاجات المختلفة مثل الحجامة والعمليات باستخدام ادوات بدائية، وتدل على ذلك السكاكين التي عثر عليها علماء الآثار، او العلامات على الهياكل العظمية.
واعتمدت الليطاني، في بحثها، على المكتشفات الاثرية التي عُثر عليها خلال حفريات أجريت في مواقع مختلفة في البلاد.
تقول الليطاني: "يعرف الطب مصطلح "الصحة" بأنها قدرة الجسم على المحافظة على الاستقرار الداخلي من خلال التوازن أمام التأثيرات الخارجية المحيطة به مثل: الحرارة، البرودة، الجراثيم، الإصابات وغير ذلك. وليساعد الإنسان جسمه في الحفاظ على صحته السليمة استعمل منذ القدم وسائل عديدة كانت بدورها وسائل الطب الأولى".
وتضيف: "خلال عصور ما قبل التاريخ تعلم الإنسان من خلال التجارب والمشاهدة عن فوائد النباتات وتأثيرها على شتى أنواع الأمراض. هذه التجربة انتقلت من جيل لآخر وتطورت لطب شعبي، وشملت أيضا اللجوء إلى قوات خارقة، ساد الاعتقاد أنها المسؤولة عن الطب والأمراض".
ولكن الانسان الفلسطيني، مثله مثل سكان العالم القديم، لم يكتف باللجوء الى تلك القوى الخارقة، فلدى الباحثين الان ما يشير الى ان الطب كان يدرس بشكل منتظم في مصر القديمة، ويعتبر "هيبوكراتس" الملقب "أبو الطب" والذي عاش في اليونان خلال القرن 5 ق.م، مؤسس الطب العلمي الحديث. فقد ارتكز في طرق الطب التي استعملها آنذاك على المشاهدات، والتجارب والاستنتاجات العلمية، التي تمحورت حول الفكرة بان المرض هو امر طبيعي وليس عقابا الهيا.
تاثر الانسان الفلسطيني القديم بالثقافات التي سادت في العالم من حوله وأثر فيها وفي المجتمعات الوثنية حيث كانت المسؤولية عن الصحة والمرض بيد الآلهة. "إسكليبيوس"، مثلا، كان اله الطب عند اليونان والرومان ورمزه الأفعى الملتفة حول العصا، والذي لا نزال نراه رمزا للطب في أيامنا هذه. الأفعى حيوان سحري اعتبر ذا قدرة على العلاج ولذا كان رمزا للطب والدواء. وعثر في فلسطين على العديد من الأشكال المختلفة لهذه الافعى.
الشعوذة كانت إحدى الوسائل التي شاع استعمالها في سبيل الطب والعلاج وحماية الإنسان من الأمراض. كتب السحر على ورق البردى، والأطباق، والمخطوطات واللوحات كان هدفها إبعاد الأرواح الشريرة عن المريض او جلب الأرواح الصالحة لحمايته.
وارتبط مصطلح النظافة باسم إلهة النظافة "هيجييا" وهي أيضا ابنة اله الطب "أسكليبيوس". والوقاية من الأمراض كانت إحدى السبل المنتشرة جدا في العالم القديم للحفاظ على الصحة وغالبا ما كان السبيل لذلك من خلال النظافة الشخصية والعامة.
تقول الباحثة: "النظافة الشخصية، على سبيل المثال، شملت منع الطفيليات في شعر الرأس من خلال الاستحمام بالصابون، تسريح الشعر ومسحه بالزيت أو تكحيل العينين بالكحل الخاص الذي منع الذباب، والجفاف أوالحر الصحراوي".
وتضيف: "الحمامات العمومية التي بدأت خلال الفترة الهيلانية، وصلت الى ذروة انتشارها خلال الفترة الرومانية والتي شملت أيضا مكانا لاستقبال الجمهور". مثل تلك الحمامات نجدها في سلوان بالقدس خلال العصر الحديدي الأول في المنازل الخاصة.
المدن القديمة شملت أيضا انابيب لتصريف المجاري وأما خلال العصور الوسطى فقد شاع استعمال "القعادة" التي تشبه جدا تلك المستعملة في أيامنا.
تقول الباحثة: "نجد الدلائل على وسائل الطب القديمة في الكتابات، والتحف الأثرية وبقايا العظام أيضا. كذلك نجد على الجماجم التي يعود تاريخها إلى ما قبل 7000 عام، آثار جراحات طبية أجريت بهدف شفاء المريض من الألم أو لطرد الأرواح وفقا لعقائد قديمة كانت شائعة. ونجد وصفا للأجهزة الطبية القديمة في قبور الأطباء المصريين والرومان كذلك في الكتابات اليونانية والرومانية القديمة، وهي تشمل أجهزة متنوعة من سكاكين العمليات، أجهزة لفصل العظام، ملقط وعصى لاستخراج الأجسام الغريبة من جسم المريض".
وتضيف: "أكثر وسائل العلاج الشائعة آنذاك، كانت المواد المستخرجة من الطبيعة. والأكثر شيوعا كان البلسم الإسفلت وماء الملح وقد استعملا للطب والتحنيط. في كتابات الحكماء القديمة نجد أشلاء حيوانات استعملت للطب من بينها الأفعى. كذلك فان الحمامات العمومية خصصت للطب. فقد عرف القدامى خصائص ينابيع المياه الساخنة الطبيعية في التخفيف عن الجسم والروح وكوسيلة علاج ضد أمراض الجلد، وأمراض الأعصاب والجنس. إضافة إلى المواد الطبيعية شاع استعمال الحجامة الطبية التي عرفها اليونانيون منذ القرن الثالث ق.م".
وتتابع: "كذلك عرفنا عن العديد من الأطباء عند اليونان وروما الذين اختصوا بمجال الأسنان، والعيون، وأمراض النساء. كذلك كان هنالك أطباء مقسمين وفقا لمناطق عملهم مثل: طبيب الملك، طبيب الجيش، الطبيب العام للشعب، طبيب للعبيد أو للأحرار. أما الألقاب مثل الطبيب الكبير أو المسؤول عن الأطباء، فهي تعكس الدرجات الإدارية بين الأطباء والتقسيم الإداري الذي كان متبعا في الحضارات القديمة في مصر، واليونان، وروما".