التجربة الفلسطينية في لبنان
من الانفلاش العربي إلى الكيانية الفلسطينية
قامت استراتيجية الثورة الفلسطينية المعاصرة على تغيير الأوضاع المحيطة بفلسطين كشرط للتحرير. والخلفية الواقعية لهذه النظرية تقول إن إسرائيل احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 قبل أن تستكمل الفصائل الفلسطينية بناء مؤسسات المقاومة في الداخل. ثم تحول الأردن إلى ساحة المواجهة حيث الجمهور الفلسطيني الأكبر في الشتات والحدود الجغرافية الواسعة والتواصل المفتوح نسبياً مع الضفة الغربية. وفي الأردن تبلورت خطة الأرض المحررة التي ينطلق منها العمل الفدائي، وصاغت الفصائل المختلفة رؤيتها، إما انطلاقاً من الفكر القومي الذي استهان بالشخصية القطرية، وإما انطلاقاً من إسقاطات التجربة الفيتنامية عن الشمال والجنوب وهانوي. واستسهلت بعض الفصائل فكرة الاستيلاء على السلطة ورفعت شعار حسم الازدواجية القائمة آنذاك فكانت مجازر أيلول 1970 التي قوضت الوجود الفلسطيني المسلح، ودفعت معظم أجهزة المقاومة نحو لبنان البلد الضعيف من حيث دولته ومؤسساتها ولا سيما المؤسسات الأمنية، ونحو المخيمات التي انتعش فيها العمل السياسي والمسلح.
كان اتفاق القاهرة (1969) يفترض أن يعطي المقاومة طريق عبور لتنفيذ العمليات الفدائية التي هي امتداد لسياسة حرب الاستنزاف التي بدأها جمال عبد الناصر (1968) رافضاً منطق الهزيمة، وداعياً إلى استمرار الصراع وإلى ضرورة حضور الطرف الفلسطيني على مسرح المواجهة. أما منظمة التحرير فقد اشتغلت على خطة السلطة الموازية، فخرجت من المخيمات إلى نشر سلسلة واسعة من المكاتب والمعسكرات والقواعد، وتصرفت على أساس تضخيم حجمها السياسي واستثماره عربياً ودولياً. في مناخ النهوض الوطني رداً على هزيمة 1967 وانتشار الأفكار الثورية والكفاح المسلح، انخرط العديد من الأحزاب اللبنانية العروبية واليسارية في التعاون مع منظمة التحرير تعويضاً عن غياب الدولة عن الجنوب، وحماية لظاهرة المقاومة. وتمحور العمل السياسي في لبنان حول قضية فلسطين، وقويت الاتجاهات التي راهنت على الثورة الفلسطينية كـ«رافعة تاريخية» لتغيير الأوضاع على المستويين الوطني والاجتماعي.
وهنا بالذات، استشعر اليمين اللبناني تراجعات حركة التحرر الوطني العربية، كما استشعر القلق من ظاهرة الموجة «الثورية» الجديدة فبدأ هو الآخر يستغل ضعف الدولة لبناء ميليشيات مسلحة تحمل أفكاراً قومية لبنانية فاشية ما لبثت أن تحولت إلى مشاريع طائفية في التصدي للأفكار الجديدة العروبية واليسارية.
أمام تعاظم الوجود الفلسطيني المسلح وقع الصدام في أيار 1973 بين الجيش اللبناني ومنظمة التحرير على برنامجين متناقضين، وهم لبناني رسمي بتكرار تجربة الأردن، ووهم فلسطيني بإنشاء سلطة وطنية حاضنة.
أسست هذه المناخات لمسار تفكك الدولة في لبنان وشجعت العقل السياسي الفلسطيني على اعتبار الإمساك بمفاصل «الورقة» اللبنانية عنصر القوة للصراع والتفاوض في آن. وتضافرت هذه الظروف بعد حرب تشرين الأول 1973 وما كان يحضّر من تسويات على استدراج القيادة الفلسطينية الأكثر نفوذاً نحو الرهان على التسويات، وعلى تغليب استراتيجية الدخول في التناقضات العربية، على حساب استراتيجية العمل العسكري الفعال في الداخل والخارج. وفي شكل أو آخر أخذت قيادة منظمة التحرير لبنان «رهينة» لهذا التفاوض. لكن الدور السياسي المتنامي للقضية الفلسطينية والتعاطف الدولي، والإمساك بالساحة اللبنانية، وذلك كله جعل التحالف الأميركي الإسرائيلي يدعم ويغذي المواجهة الأهلية لاستنزاف المقاومة وإغراقه في النزاعات الداخلية.
عندما اندلعت شرارة الحرب اللبنانية في سنة 1975 استجابت الفصائل الفلسطينية لتداعياتها وسعت إلى توطيد نفوذها وانتشارها ورفض الحلول التي تعيد سلطة الدولة اللبنانية وتضبط الانفلاش الفلسطيني.