عرض مشاركة واحدة
قديم 12-19-2010, 12:29 AM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
ابن البلد
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية ابن البلد
إحصائية العضو






 

ابن البلد غير متواجد حالياً

 


افتراضي


مصعب بن عمير ( أول سفراء الإسلام )






الجزء الرابع



وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة* كان مسلمو المدينة يرسلون إلى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم إليهم "مصعب بن عمير".
لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..
فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها. وعرف أنه داعية إلى الله تعالى* ومبشر بدينه الذي يدعو الناس إلى الهدى* والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به* ليس عليه إلا البلاغ..
هناك نهض في ضيافة "أسعد بن زرارة" يفشيان معا القبائل والبيوت والمجالس* تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه* هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (إنما الله اله واحد)..
ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه* لولا فطنة عقله* وعظمة روحه..

ذات يوم فاجأه وهو يعظ الإنس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة* فاجأه شاهرا حربته و يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم* ويحدثهم عن إله واحد لم يعرفوه من قبل* ولم يألفوه من قبل..!
إن آلهتهم معهم رابضة في مجاثمها و إذا احتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا إليها* فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..
أما إله محمد الذي يدعوهم إليه باسمه هذا السفير الوافد إليهم* فما أحد يعرف مكانه* ولا أحد يستطيع أن يراه..!!
وما إن رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد بن حضير متوشحا غضبه المتلظي* وثورته المتحفزة* حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا* متهللا..
وقف أسيد أمامه مهتاجا* وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:
"ما جاء بكما إلى حيّنا* تسفهان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا* إذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!
وفي مثل هدوء البحر وقوته..
وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:
"أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".
الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!

كان أسيد رجلا أعرايبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه إلى ضميره* فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع* تركه لاقتناعه وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم* وتحول إلى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..
هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته إلى الأرض وجلس يصغي..
ولم يكد مصعب يقرأ القرآن* ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام* حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم* وتكتسي بجماله..!!
ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:
"ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟
وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا* ثم قال له مصعب:
"يطهر ثوبه وبدنه* ويشهد أن لا اله إلا الله".
فغاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه* ووقف يعلن أن لا اله إلا الله* وأن محمدا رسول الله..
وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع* وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة* وتمت بإسلامهم النعمة* وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: إذا كان أسيد بن حضير* وسعد بن معاذ* وسعد بن عبادة قد أسلموا* ففيم تخلفنا..؟ هيا إلى مصعب* فلنؤمن معه* فإنهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!
--
لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاحاً هو له أهل* وبه جدير..
وتمضي الأيام والأعوام* ويهاجر الرسول وصحبه إلى المدينة* وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها* لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر* فيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون إلى الثأر* و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم* ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير* فيتقدم ويحمل اللواء..
وتشب المعركة الرهيبة* ويحتدم القتال* ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام* ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين* لكن عملهم هذا* سرعان ما يحوّل نصر المسلمين إلى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل* وتعمل فيهم على حين غرّة* السيوف الظامئة المجنونة..
حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين* ركّزوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..
وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر* فرفع اللواء عاليا* وأطلق تكبيرة كالزئير* ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء إليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه* وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل* ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..
يد تحمل الراية في تقديس..
ويد تضرب بالسيف في عنفوان..
ولكن الأعداء يتكاثرون عليه* يريدون أن يعبروا فوق جثته إلى حيث يلقون الرسول..
لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!
يقول ابن سعد: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري* عن أبيه قال:
[حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد* فلما جال المسلمون ثبت به مصعب* فأقبل ابن قميئة وهو فارس* فضربه على يده اليمنى فقطعها* ومصعب يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..
وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه* فضرب يده اليسرى فقطعها* فحنا على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره وهو يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..
ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأنفذالرمح* ووقع مصعب* وسقط اللواء].
وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!
وقع حلية الشهادة* وكوكب الشهداء..!!
وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والإيمان..
كان يظن أنه إذا سقط فسيصبح طريق القتلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..
ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)
هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها* ويكملها* ويجعلها* قرآنا يتلى..
--
وبعد انتهاء المعركة المريرة* وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا* وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..
لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء* فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!
أو لكأنه خجلان إذ سقط شهيدا قبل أن يطمئن على نجاة رسول الله* وقبل أن يؤدي إلى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!
لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!
--
وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..
وعند جثمان مصعب* سالت دموع وفيّة غزيرة..
يقوا خبّاب بن الأرت:
[هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله* نبتغي وجه الله* فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى* ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا* منهم مصعب بن عمير* قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة.. فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه* وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه* فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه* واجعلوا على رجليه من نبات الأذخر"..]..
وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة* وتمثيل المشركين بجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام* وأوجع فؤاده..
وعلى الرغم من أن أرض المعركة امتلأت بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
على الرغم من كل هذا* فقد وقف على جثمان أول سفرائه* يودعه وينعاه..
أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي دفن بها وقال لقد رأيتك بمكة* وما بها أرق حلة* ولا أحسن لمّة منك. "ثم ها ذا شعث الرأس في بردة"..؟!
وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:
"إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".
ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:
"أيها الناس زوروهم * وأتوهم* وسلموا عليهم* فوالذي نفسي بيده* لا يسلم عليهم مسلم إلى يوم القيامة* إلا ردوا عليه السلام"..
--
السلام عليك يا مصعب..
السلام عليكم يا معشر الشهداء..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..







رد مع اقتباس