وما كدنا نمر أمام مركز القيادة العسكرية في صويلح ، حتى جعلت نيران الرشاشات تدوي. فلاقى حتفه أحد الجنود المتواجدين في سيارة الجيب التي كانت تتقدمني وجرح آخر. فأطلقنا جميعاً نيران أسلحتنا للإفلات من هذا الكمين ، واستمر إطلاق النار بضع دقائق أيضاً إلى أن توقف ، أسفر ذلك ويا للأسف عن وقوع قتلى" ثمانية من الفدائيين ، وأحد جنودي ، وأربعة جرحى. رباه ، لماذا كل هذا ؟ لماذا؟. وما أن بلغت القصر حتى أخبرني مساعديّ بأن المنظمات الفلسطينية لا تنسب إلى نفسها هذه المؤامرة وأنها على العكس من ذلك قد استنكرتها. غدا الوضع فوضى متزايدة باستمرار. لا أحد يطيع أوامر أحد. كل يلقي اللوم على الآخر. كانت الأذهان في حالة غليان ، ولا سيما بين رجالي من أبناء العشائر الذين كانوا ينتظرون مني أن أعطيهم النور الأخضر حتى يندفعوا إلى المعركة. وانطلقت الشائعات التي لا تساعد على تسوية الأمور ، وتهدئة الخواطر: قيل بأنني أصدرت أمري إلى الجيش بمحاصرة مخيمات اللاجئين في الوحدات ، وفي مخيم الحسين حيث "سقط مئات القتلى والجرحى". يا له من هذيان... ومن باب الانتقام قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بمحاصرة أهم فندقين في العاصمة واحتجزت ثمانية وخمسين من المواطنين الأجانب كرهائن : وأعلنت بأنها سوف تطلق سراحهم عندما تصمت نيران الأسلحة وإلا فإنهم سيوف يقتلون ، وسيدمر الفندقان.
في العاشر من حزيران ، جرى وقف لإطلاق النار . ولكنه لم يدم سوى فترة قصيرة. وفي اليوم التالي أصرّ الفدائيون على استقالة أربعة من أقرب المستشارين عندي . كان بينهم خالي الشريف ناصر، وابن عمي زيد بن شاكر كان هذا غير معقول . ثم وقعت حادثة مؤلمة عندئذ : قتل الفدائيون الذين كانوا منتشرين في كل في المدينة ، شقيقة زيد بن شاكر، ابنة عمي، جوزاء التي كانت قد صعدت إلى سطح بيتها لتشاهد ما كان يجري وسواء أقتلت عمداً أم سهواً فقد كان الفدائيون قد أحدقوا بدار أم قائد الفرقة المدرعة ، وفي نيتهم أن يظهروا تواجدهم بطريقة أو بأخرى، كانت جوزاء الضحية البريئة، لذلك. ولما كان من الممكن أن يستمر التصعيد وأن يستتبع هذا سقوط قتلى آخرين، فقد اتخذت على كره هذا سقوط قتلى آخرين . فقد اتخذت على كره مني، قراراً بإعفاء الشريف ناصر وزيد شاكر من منصبيهما، وأبدلت خالي في قيادة الجيش، بالجنرال مشهور حديثة، مقابل ذلك أطلق الفدائيون رهائنهم ، وهذا لم يمنع من إطلاق نيران الرشاشات على مشهور حديثة في اليوم التالي لتقلده منصبه في إحدى ضواحي عمان، ولحسن الحظ لم يصب بأذى. أحسست بأن وجود خالي في الأردن في هذا الصيف من عام 1970 كان يزعج الفدائيين الذين كانوا يأخذون عليه " توجيه دفة الأمور" من وراء الكواليس. فتسامحت أيضاً ورجوت الشريف ناصر أن يأخذ بعض الإجازة في الخارج، ريثما تعود الأوضاع إلى نصابها من جديد، وفي السابع عشر من حزيران، خلال مؤتمر صحفي عقدته ، لم أستطع أن أتمالك نفسي من توجيه المديح والثناء للرجلين اللذين أعفيتهما من منصبيهما وهما: خالي وابن عمي اللذان عادا فيما بعد إلى العمل، واللذان كانا في رأيي مفخرة لجيشنا ولشعب الأردن، في السادس والعشرين من الشهر المذكور عينت عبد المنعم الرفاعي رئيساً جديداً للوزراء، وفي اليوم التالي استقبلنا في عمان بعثة عربية رسمية قادمة من الجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان، وقد جاءت بدعوة مني للإدلاء برأيها والاعراب عن مشاعرها حول المشكلة التي تثير الهم والقلق وتقسم السكان إلى طائفتين متناحرتين متعاديتين ، مستعدتين لكل شيء، استمرت أعمالنا أسبوعين وأخيراً ، في العاشر من تموز (يوليو) وقع اتفاق من قبل مختلف الأطراف . وقعه الرفاعي .
باسم حكومتي ووقعه عرفات باسم الفدائيين (والحكماء) العرب الخمسة، وقد اعترفنا بموجبه بوجود (لجنة مركزية) للفدائيين على أراضينا ندع لها كل حرية للمناورة والتنقل مقابل أن يتخلى الفدائيون عن قواعدهم ومستودعات ذخائرهم في التجمعات السكانية الأردنية ويكفوا عن حمل السلاح في المدن.
كان هذا من شأنه أن يجعل المرء يتطلع إلى المستقبل بهدوء وسكينة . لقد كان هنالك ما يدعوني، بحكم طبيعتي المتفائلة ، ان أعتقد بأننا بذلك قد نجونا تماماً من مواجهة قد يقتل فيها الأخ أخاه، ولكنني ما لبثت أن اضطررت إلى تضييق مدى ما كنت أرتجيه: إذ لم تدم الهدنة سوى شهر واحد، بلا زيادة يوم واح. كنت وافقت مثل عبدالناصر على الاقتراح الأمريكي بإيقاف النار لكي نتيح لوسيط الأمم المتحدة مواصلة جهوده في جو أكثر هدوءاً. وعندما قررت مصر والأردن الاحترام الدقيق لوقف إطلاق النار ثارت ثائرة الفدائيين مرة أخرى، فقد اعتراهم شعور بأن عبدالناصر وأنا قد خذلناهم وغدرنا بهم وأن قضيتهم قد "أغفلت". لقد تكون لديهم انطباع خاطيء طبعاً بأننا بعملنا هذا لم نعد نريد محاربة إسرائيل، بل مقاتلتهم هم الفلسطينيون . ومنذ ذلك الحين تجاوزت الأحداث ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأمسكت جبهة التحرير والجبهة الديمقراطية بالأمور في أيديها. كانوا يودون العمل بسرعة، وبسرعة قصوى. لم يعد أي شيء يستطيع منذئذٍ أن يوقفهم. كان الأمر في نظرهم مسألة تتعلق بالإبقاء على حياتهم.