بسم الله الرحمن الرحيم :
في السبت 27 من جمُادى الأولى عام 13 هـ، واجه فيها الروم بـ 100 ألف مقاتلٍ، جيش المسلمين البالغ 33 ألفا، أي بنسبة 3:1 تقريبًا !! نظم " خالد بن الوليد" جيشه، فجعل على الميمنة " معاذ بن جبل " رضي الله عنه، وعلى الميسرة " سعيد بن عامر " رضي الله عنه، وقسم قلب الجيش نصفين، نصفا للمشاة بقيادة أبي عبيدة رضي الله عنه، و جعلهم في مؤخرة الوسط، و نصفا للخيل في المقدمة بقيادة " سعيد بن زيد " رضي الله عنه، ووقف خالد بنفسه في مقدمة الجيوش الإسلامية، حتى إن إشارة البدء للجيش الإسلامي، كانت قتال خالد بن الوليد نفسه، فلم يقاتلوا إلا عندما رأوه يحمل على القوم: ( إذا حملتُ على القوم فاحملوا ).
أما الجيش الرومي فقد كان قائده ( وردان ) في المؤخرة، وقد كان هذا ديدنهم في كل المعارك، ( مثلما فعل "رستم" في القادسية أيضًا )، وهكذا يؤمِّنُ نفسه تمامًا.
كما استخدم خالد رضي الله عنه سلاحًا معنويًا لطيفًا في هذه المعركة، بأن جعل نساء المسلمين، في مؤخرة الجيش الإسلامي، ( والجيش الإسلامي في تحركاته إلى الشام، وإلى العراق كانوا يذهبون مع أهاليهم، لأنهم يمكثون سنين وشهورًا طويلة، للجهاد فأصبحت حياتهم كلها الجهاد في سبيل الله، فانتقلوا بكل عائلاتهم )، فجعل خالد النساء والأبناء خلف الجيش، وأوصاهم أن يوصوا كل مجاهد بالقتال، ويحثوهم على القتال دون أولادهم ونسائهم،ويدعو لهم بالنصر والتمكين، وهو سلاح معنوي..أضاف به عاملاً جديدًا حفَّز المسلمين على الجهاد..
وكان خالد بن الوليد لا يهدأ في مكان حتى بدء المعركة، وكان كلما مر على قبيلة من القبائل، أو طائفة من الجيش أوصاهم بتقوى الله، وقال لهم: ( قاتلوا في الله من كفر بالله، ولا تنكصوا على أعقابكم، ولا تهنوا من عدوكم، أقدموا كإقدام الأسد، وأنتم أحرار كرام، فقد أبيتم الدنيا، واستوجبتم على الله ثواب الآخرة، ولا يهولنكم كثرة أعدادهم، فإن الله منزلٌ عليهم رجسه، وعقابه ( إذا حملت على القوم، فاحملوا )..
وهكذا كان القائد على ثقةٍ بنصرالله، وعلى يقين بأن الله لن يخذلهم، ما داموا قد استعدوا، وأخذوا بأسباب النصر، وخاصة أن حربهم ضد من كفر بالله، وصدوا عن انتشار دعوته إلى هذه البلاد ؛ لذا فإن الله سينزل عليهم رجسه، وعقابه..
كان ذلك كله في صبيحة يوم السبت، وجاء وقت القتال عند صلاة الظهر، وكان خالد رضي الله عنه يفضل أن يقاتل بعد صلاة الظهر،ونلاحظ اهتمامه رضي الله عنه بالصلاة حتى في ميدان المعركة والسيوف على رقاب المسلمين، كما أن في ذلك أيضًا سيرا على سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهد في هذه الأوقات، من طلوع الشمس حتى قبيل الظهر، أو بعد صلاة الظهر، وكان يقول: ( تهب نسائم النصر في هذه الأوقات ) كما روى الترمذي وأبو داود، فلم يبدأ خالد بالقتال، ولكن الجيش الرومي استغل الفرصة وبدأ هو بالهجوم، فهجمت ميمنة الجيش الرومي على ميسرة جيش المسلمين، على فرقة ( سعيد بن عامر ) رضي الله عنه، فثبتت لها فرقة ( سعيد) دفاعًا عن المسلمين فقط، ولكنها لم تهاجم، لأن خالدًا لم يعط الأمر ببدء القتال بعد !!.. وبعد ذلك تحركت ميسرة الجيش الرومي إلى ميمنة المسلمين ( فرقة " معاذ بن جبل " ) وثبت لها أيضًا، وظل الحال كذلك فترة من الزمان، حتى قال سعيد بن زيد رضي الله عنه لخالد بن الوليد: يا خالد إن رماح الروم تنال منا !!، فهم قد بلغ بهم الجهد من الدفاع، وفي الوقت ذاته لا يريدون أن يخالفوا أمره، ولكن خالد رد عليه: اصبر فإن في الصبر رجاء !
كان خالد بن الوليد رضي الله عنه يرى أن الميسرة والميمنة لدى كلا الجيشين قد هاجمتا، فيكون من اليسير على قلب جيشه بقيادته أن يتقدم إلى قلب جيش الروم، مما يعجل وييسر من وصوله إلى قائد الروم ( وهو يعلم أنه في مؤخرة جيشه )، ويعلم أنه إذا قتل قائدهم، فإن الجيش لن يصمد لحظة، وسيفكر في الهرب، وسيكون قد انتصر عليهم. بخلاف الجيش الإسلامي الذي يحمل عقيدة، ويقاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ولأنه يحب الموت كما يحب هؤلاء الحياة ( وقد رأينا مثالاً عمليًا لذلك في موقعة مؤتة، حينما سقط القائد العام (زيد بن حارثة )، وتبعه ( جعفر بن أبي طالب )، فسقط جعفر، فتبعه ( عبد الله بن رواحة، وسقط عبد الله بن رواحة، كل ذلك لم يفت من عضد الجيش الإسلامي، ولم يجعله يتوانى عن الجهاد، والاستمرار في المعركة، حتى اجتمع المسلمون وأمروا عليهم " خالد بن الوليد " رضي الله عنه )
تحرك رومي غير مدروس:
تحرك وردان من حمص من خلال الطرق الداخلية، عن طريق بعلبك وشمال فلسطين، لكي يصل إلى بصرى، بحيث لا يلحظ جيش المسلمين في دمشق مرور هذا الجيش، وتحجبه الجبال اللبنانية في ذلك المكان، وهذا ما حدث، ولكن عيون الجيش الإسلامي كانت يقظة، فعرفت بتحرك جيش ( وردان ) بمجرد خروجه من منطقة الجبال، وأنه يتحرك نحو جيش شرحبيل في بصرى.
المحور الثاني: كانت ( جِلَّق) تضم مجموعة من القوات الرومية، فانضم إليها عدد كبيرمن قوات الجيش الرومي من أنطاكية عن طريق البحر الأبيض المتوسط ( بحر الروم )، كما جاءت قوات أخرى من الأراضي الشامية وتجمع الكل تحت قيادة ( تذارق) في (جلق)، وكان هذا الجيش قوامه 70 ألف مقاتل أو يزيد، إلا أن تحركه ذلك كان غير مفهوم !! وليس له هدف واضح، ولم يكن مدروسًا، إذ إن جيش المسلمين المواجه لهم ( 3 آلاف ) مجاهد ( بقيادة عمرو بن العاص )، فليس منطقيًا أن يحُشَد 70 ألف مقاتل لمواجهة 3 آلاف !! ولم يكن موجهًا لغيره من الجيوش الإسلامية، لأنهم مكثوا مدة طويلة لم يحاربوا أحدًا فيها !!.. فكان تحركًا غير مدروس، وإنما تحرك أملته عليهم الخبطات الإسلامية، لوجود أكثر من جيش إسلامي في الشام.
( وهذا أمر يتكرر في التاريخ، فقد وجدناه في الجيوش العربية في نكسة 67 إذ كانت تحركات الجيوش غير مدروسة على نحو يوحي بأن من يحرك هذه الجيوش لايدري إلى أين هي ذاهبة؟ وأين يجب أن تتجه ؟.. )
وصلت أخبار وردان إلى جيش أبي عبيدة وخالد بن الوليد في دمشق، وأنه يلتف حول الجيش الإسلامي في بصرى، وأن (تذارق) جمع في جلق 70 ألفا.
طرح خالد الموضوع كاملاً على أبي عبيدة ( أمامهم 3 جيوش رومية قوية: جيش خلف أسوار دمشق، و جيش وردان المتجه إلى بصرى، و أكبر هذه الجيوش في جلق ) كما وصلتهم أخبار أن نصارى العرب بدأوا في الانضمام إلى جيش تذارق الموجود في جلق. فكان رأي أبي عبيدة أن يتركا دمشق، ويذهبا لمعاونة جيش شرحبيل، فتتحد الجيوش الثلاثة، لمقاتلة ( وردان)، وهو رأي له وجاهته، أما خالد فقد رأى أنهم لو ذهبوا لشرحبيل في بصرى، لتبعتهم حامية دمشق عن قرب، ( فطنة خالد في الحرب تتضح في مثل تلك المواقف )، وأدرك أنهم سيكونون بذلك بين الجيشين، ويرى أن جمع الروم الأكبر الموجود في ( جلق ) تحت قيادة " تذارق" يجب أن يُواجَه، و أن تُرسل رسالة إلى " شرحبيل " لتحذيره من جيش وردان، وألا يلتقي معه ( أي يهرب من ملاقاته ) ويقابلهم في ( أجنادين)، حتى ينتقلوا إلى ( جلق ) معًا، ويأتيهم جيشا ( يزيد و عمرو ) في نفس المنطقة، أي أنه رأى أن تجتمع الجيوش الخمسة في أجنادين، حتى تنطلق إلى مواجهة جيش ( تذارق) في ( جلق ).. فوافقه أبو عبيدة رضي الله عنه قائلاً: ( هذا رأي حسن، فأمضه على بركة الله، ونسأل الله بركته ).
يخرج خالد بن الوليد، يخطب خطبة في الجيش الإسلامي ؛ فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: ( أما بعد، فإني قد بلغني أن طائفة من الروم نزلوا بأجنادين، وأنهم استعانوا بأناس قليل من أهل هذا البلد، على كثرتهم، وذلك استقلالاً لما معهم من الكثرة ذلاً...