* ومنذ ذلك الحين بدأ التشابك والتصعيد.
- هذا واقع أكيد: لقد ازداد التوتر على توالي الأسابيع : الحرب الإذاعية، حرب البلاغات، هجمات رجال المفاومة تضاعفت حدتها كان يسقط القتلى من كل جانب. كان هنالك خسائر يومية جسيمة تقريباً في المعدات. إلا أن أمراً واحداً كان يدهشني. فالطائرات السورية التي كانت تسقطها المطاردات الإسرائيلية والقتلى العرب سواء في سورية أو الأردن، كل ذلك كان يبدو وكأنه قد أبقى الرئيس عبد الناصر فاتر الهمة غير مكترث. ولكن ماذا حل إذن بميثاق الدفاع السوري المصري؟ . لماذا لبثت الحدود الإسرائيلية المصرية هادئة؟ ماذا حل بالتضامن العربي الذي أطنب رئيس الدولة المصري في الإشادة به وتحبيذه؟ . لقد لفت نظره إلى ذلك. حتى (لفاؤه) السوريون أصبحوا قلقين. وأعلموه بذلك. فقد كانت دمشق ترغب بأي ثمن أن تجر القاهرة إلى نزاع مسلح.
في (15) مايو (أيار) قرر عبد الناصر وضع سائر القوات المسلحة لبلاده في حالة إنذار وأمر بإجراء مناورات ضخمة في سيناء " لتخفيف الضغط على الحدود السورية الإسرائيلية " التي حشدت فيها تل أبيب قوات كبيرة. واستوجب عبد الناصر في (19) منه، رحيل جنود الخوذات الزرقاء التابعين للأمم المتحدة فأصبح هذا الرحيل نافذاً في (21) منه. ثم جاء قرار القاهرة القاضي بإغلاق مضايق تيران التي تفضي إلى ميناء إيلات الإسرائيلي. فاعتبرت الدولة اليهودية هذا التصرف عملاً حربياً.
تلقيت نبأ هذا القرار بذهول في صباح (22) فهذا الإجراء الذي يفتقر إلى التروي والتفكير ليس من شأنه إلا أن يقود إلى النكبة، إلى الكارثة. لأن العرب لم يكونوا مستعدين للحرب إذ لا يوجد بينهم أي تنسيق ولا أي تعاون ولا أية قوة مشتركة ولا أية خطة! ولكنني كنت متيقناً بأنه : إذا كان لا بد للحرب من أن تنشب، وهذا ما كان يزداد جلاء ووضوحاً كل يوم، فلنكن البادئين بالهجوم. أما إذا ما هاجمتنا إسرائيل فإنني لن أقف مكتوف اليدين، وستنحاز قواتي إلى جانب الشعوب العربية. ولقد صرح ابن عمي زيد بن شاكر الذي كان يقود أحد ألويتي المدرعة، في حديث صحفي أدلى به وقتئذ : " إذا لم يشترك الأردن في هذه الحرب، فإن حرباً أهلية ستنشب في الأردن ". لقد شعرت في قرارة نفسي بأنني مرتبط اً وثيقاً بميثاق الدفاع العربي الموقع في القاهرة في عام 1964، حتى ولو بدا أنه لم يعش إلا على الورق آنئذ، ولم يكن يعقل أن لا تحترم بلادي التزاماتها وتوقيعاتها وهي التي كانت دوماً تأخذ مكانها في المراكز العسكرية الأمامية في حروب التحرير منذ خمسين سنة. فهذه الحرب المحتملة تخص فلسطين التي كان الأردن يدير جزءاً كبيراً منها. كنت إذن معنياً إلى أقصى الحدود بهذا النزاع الوشيك الوقوع.
كان الأردن أكثر شعوب المنطقة تعرضاً للخطر من جراء الطول الزائد لحدوده المشتركة مع إسرائيل. كان لدي حقاً أسلحة ومعدات وجيش ممتاز ومدرب خير تدريب، ولكن بنسبة أقل من أعدائنا. عبثاً طلبت معونة العراقيين والسعوديين لتوحيد جهودنا في جبهة واحدة، فلم يأت شيء من الشرق. كنت أعرف إذن قبل نهاية شهر أيار (مايو) 1967 بأنني سوف أبقى وحدي للدفاع عن خط قتال يمتد من البحر الأحمر حتى بحيرة طبريا. هذه " التعبئة العامة " لجيوش ميدان القتال، لم تمنع جيراني السوريين من ارتكاب اعتداء على أرضي بينما كان من الأفضل أن يركزوا طاقتهم نحو الهدف المشترك! .
ولما غدا حواري مع دمشق مستحيلاً، التفت نحو القاهرة التي بدت لي أكثر انفتاحاً وتقبلاً للآراء والأفكار. فبعثت في 25 أيار (مايو) إلى العاصمة المصرية، برئيس أركان حربي الجنرال عامر خماش. إستقبل طبعاً بأدب، ولكن لم يجر إطلاعه على شيء ولا على أي اعداد. ولم يستطع مقابلة أي من القادة المصريين، باعتبار ان عبد الناصر نفسه كان (مشغولاً جداً)، فلم يبق هنالك إذن سوى حل وحيد فقط من أجل احتمال معرفة ما يجري إعداده من جانب البلاد العربية وهو : أن أذهب شخصياً إلى القاهرة.
إطلعت على رغبتي هذه، سفير مصر في عمان الذي نقل طلبي إلى حكومته. وفي اليوم التالي الواقع في 29 أيار (مايو) وردني جواب عبد الناصر :
" تعالوا إلى القاهرة بأسرع وقت تستطيعون! ".
كان ذلك الخطوة الأولى. في اليوم الثلاثين من أيار (مايو) طرت سراً إلى مصر، وكان يرافقني رئيس وزرائي والجنرال خماش نفسه، وشخصان آخران. إرتديت لهذه المناسبة بزة القتال التي لم تفارقني طوال عدة أسابيع، واعتمرت قبعتي ذات الشعار الملكي، وعلقت مسدسي بحزامي. لم يصحبني أي حرس أما النيابة لبضع ساعات فقد أمنها أخي الأمير محمد في غياب ولي العهد الأمير حسن الذي كان في أكسفورد. إستلمت أجهزة قيادة طائرة كارافيل مدينة تابعة لخطزطنا الجوية الوطنية، وبعد طيران لم تتخلله أية مضايقات، هبطت في مطار الماظة القريب من القاهرة حيث كان الرئيس المصري ينتظرني، يحيط به رئيس وزرائه والفريق علي عامر رئيس (القيادة العربية المشتركة) التي كان من المفروض وجودها! كان الاستقبال حاراً ودياً. كان يقف المصورون إنقاذاً للمظهر الخارجي! وقبل أسبوع كانت إذاعة القاهرة تشتمني. وكان عبد الناصر يتجاهلني تقريباً. واليوم تظاهر باعتقالي وهو يمزح أمام الجميع، الأمر الذي أثار ضحكنا الشديد. وهكذا تسير السياسة . . . .