ليس الهدف من إعادة طرح سؤال الانقسام الفلسطيني الذي أشبع "حكيًا" هو الدخول إلى بازار الانحيازات وتحميل المسؤوليات والشيطنة المتبادلة بين طرفي الانقسام، واتجاهات بوصلة التخوين، بقدر ما هو البحث عن الجذور الحقيقية لهذه الظاهرة وتحليل هذه الخريطة الانقسامية والنظر مليًّا في المخاطر والآفاق المحتملة لظاهرة كهذه.
الانقسام الفلسطيني الممتد منذ يونيو/حزيران 2007، حين سيطرت حركة حماس بالقوة على قطاع غزة، أثار كثيرا من التساؤلات حول حقيقة هذا الانقسام، خصوصا أن التعامل معه إلى الآن يتم على أنه انقسام سياسي فلسطيني ذاتي في أسبابه راجع لخيارات النخب الفلسطينية المهيمنة، وسياسي في تأثيراته دون النظر بقلق إلى مخاطره الاجتماعية.
حوامل الانقسام الكلاسيكية في المجتمعات تكاد تكون معدومة في البنية الاجتماعية الفلسطينية، فهو شعب متجانس من حيث الأصول الإثنية فهو بكامله شعب عربي ويفخر بانتمائه هذا، وهو شعب غالبيته مسلمة سنية لا تكفر المذاهب الأخرى بقدر ما تتأثر بتنوعها إيجابًا، لم يعرف تاريخها التعصب ضد الأديان الأخرى، والمسيحي الفلسطيني رغم أنه أقلية دينية أمام المسلمين فإنه تاريخيًّا يقدم وطنيته وقوميته على موضوع الدين.
ولم يشهد الشعب الفلسطيني على مدى تاريخه أي نوع من التوترات الاجتماعية إثنية كانت أو طائفية أو مذهبية، بل كان انقسامه القليل في التاريخ يتأسس على الصراعات السياسية في البيئة الخاصة والمحيطة. حتى عندما كانت تتحول الصراعات المحيطة والمؤثرة عليه إلى صراعات مذهبية أو عرقية لم يكن ليجد لها الحوامل الداخلية إلا بتحويلها إلى معادل سياسي.
ورغم هشاشة التأثير الذي أحدثه العمل النضالي لفلسطينيي الشتات على بنية الداخل في المراحل الأولى من الاحتلال، فإن تجذر الحس الوطني الفلسطيني وعمقه التاريخي والحضاري ومنظومة قيمه الاجتماعية كانت تختزن مع الزمن تصورًا للذات مختلفًا عن ما أرادته الحركة الصهيونية.
ففي الوقت الذي تنازل فيه فلسطينيو الوطن عن دورهم لصالح إخوتهم في الشتات لكونهم أكثر تحررًا من التأثير المباشر للاحتلال الصهيوني وكونهم أكثر اتصالاً بالعمق العربي بكل معطياته الإيجابية والسلبية ومتطلبات صراعه مع المشروع الصهيوني، فإن فلسطينيي الداخل في الوقت ذاته كانوا يرسمون تصورهم الخاص للصراع ويستوعبون معطيات الاحتلال ويؤسسون لآليات مواجهته اعتمادًا على الذات وما يكرسونه من قيم هي منتج التفاعل مع الاحتلال وإفرازاته.
ظل الاحتلال الصهيوني ينظر إلى الفصائل الفلسطينية في الخارج باعتبارها الخطر المهدد لمشروعه طالما أن الداخل لا يقوم بأي فعل مقاومة ذي شأن، وتوهم أنه قد نجح في ترويض وإعادة إنتاج الشعب الفلسطيني وفق مقاساته الإستراتيجية.
فركز كل عنفه وإستراتيجياته وبرامجه على فلسطينيي الخارج حتى استطاع من خلال حرب عام 1982م إخراج الجسم الرئيسي للمقاومة الفلسطينية من بيئتها الحاضنة في لبنان. وهنا اعتقد الكيان الصهيوني أن الوضع قد أصبح جاهزًا لاستثماره في إنهاء ظاهرة الشعب الفلسطيني والتعامل معه على أنه كمّ عربي على أرض إسرائيل يعالج من خلال التسويات مع النظم العربية.
وبعد سنوات من الجدل والمشاريع المتداولة وعندما وصل الوضع الفلسطيني في الخارج إلى الحائط المسدود، وبدأت عملية البحث عن مشاريع وخرائط طرق وعمليات سياسية لتعريب كامب ديفد واستدخالها فلسطينيًّا بإعادة مصر بكاملها إلى الصف العربي سنة 1987م، فوجئ الجميع بانطلاق الانتفاضة الفلسطينية وهي منتج داخلي لمنظومة القيم الاجتماعية الوطنية لفلسطينيي الوطن، نابعة من وحدة المجتمع ومتأسسة على وحدة قيمه ووحدة مصيره ووحدة المخاطر ووحدة تأثير البيئة الاحتلالية عليهم.
وقد استطاعت هذه الانتفاضة أن تأخذ زمام المبادرة وتلتقط متطلبات اللحظة وتطلق مشروعها المقاوم بعد أن استوعبت معطيات الاحتلال وتراجع قدرات فلسطينيي الخارج بتعبيرها السياسي المتمثل في الفصائل الفلسطينية ووضعها الانقسامي وتجاذباتها العربية
وليس صعبًا الاستنتاج بأن استدعاء منظمة التحرير للتفاوض معها على الانتفاضة لم يكن وليد الضغط الذي كانت تمثله منظمة التحرير في تلك الحقبة من الزمن على الكيان الصهيوني والتي كانت عمليًّا في أضعف أحوالها، أو بسبب تأثيرها الرئيس على الفعل الفلسطيني في الداخل، بقدر ما كان المطلوب الاستنجاد بضعفها من أجل سحبه على حالة فلسطينيي الوطن، وإغرائها بأن تستبدل بهذا الضعف دورا وهميا يعيد إنتاجها مؤسسة سياسية فلسطينية ولكن في سياق إسرائيلي.
فمنظمة التحرير بما هي محصلة وميدان التجاذبات العربية داخل بيئة الصراع مع المشروع الصهيوني كانت تشهد بوادر انقسامات حادة بعيد خروج النظام المصري من معادلة الحرب من خلال اتفاقية كامب ديفد وكانت تعاني من كل أشكال التمزق العربي قبيل اجتياح بيروت وأصبحت على حال أسوأ بعد الخروج من لبنان، وتحولت إلى بيئة مواتية أكثر للعبث بها بوصفها ميدان تجاذبات عربية وإقليمية.
دخلت منظمة التحرير في نفق أوسلو محمولة على شبكة التجاذبات العربية بكل اهترائها وهشاشتها ومفتوحة على دخول العامل الصهيوني كعامل داخلي في بنيتها، وعلى تأثير الأطراف الدولية والإقليمية بكل تلاوينها. فنقلت فيروس الخراب والانهيار في بيئة الخارج إلى بيئة الداخل، وحولت تصور الصراع الذي أبدعه فلسطينيو الوطن إلى تصور مستورد ومحمول على كل أمراض البيئة السياسية العربية والإقليمية.
في معادلة الداخل (الانتفاضة) ظهر العامل الديني باعتباره حاملا من حوامل الصراع معبرًا عنه من خلال تنظيم حماس الذي ترافق الإعلان عنه مع بدايات الانتفاضة. ولم يكن يخفى على الكيان الصهيوني أن هذا الجسم هو منتج داخلي بصرف النظر عن الحامل الديني، فهو منتج من أبناء الشعب الفلسطيني، وبالأساس هو منتج تحولات أيديولوجية لبنية ضخمة من أبناء فصائل المقاومة وبشكل أساسي حركة فتح، وبشكل أكثر تحديدًا في البنية الاعتقالية ردًّا على مستوى التردي الذي آلت إليه أوضاع فصائلها وقيادتها في الخارج.
فأصبح من الضرورة بمكان تشكيل المناخ السياسي الضاغط على قيادة الانتفاضة بشقيها الديني والوطني من أجل تشبيكها مع البيئة الخارجية العربية والفلسطينية المنقسمة والمتصارعة المتلونة بكل أشكال الضعف والهوان بعد خروج مصر من معادلة الصراع وانشغال العراق في حربه مع إيران، وخروج فصائل المقاومة بعيدًا عن حدود فلسطين.
فجاء إبعاد قيادات الانتفاضة إلى الخارج في جنوب لبنان وإلى تونس مقدمة لتشبيك مع الخارج ومن أجل إعادة إنتاج قيادة الداخل على إيقاع الخراب الخارجي ومعادلات التجاذب العربي والإقليمي ولتعود معادلة الانتفاضة محكومة بمعادلات البيئة العربية المتصارعة بكل هشاشتها.
الانقسام اليوم بات يفرق العائلة الواحدة والأسرة الواحدة وكأنها ملامح طفرات جينية أصابت الأسرة بين جينات فتحاوية وجينات حمساوية وربما تنقسم العائلات إلى أفخاذ على نفس الأسس ويصبح لاحقًا هناك شعبان تاريخيان هما شعب فتح وشعب حماس.
إن أخطر ما حصل في هذا الانقسام هو تغييب وغياب الوسيط التاريخي بين السياسي والاجتماعي وهو منظمات المجتمع المدني والمثقفين والمؤسسات الثقافية واللجان الشعبية والنقابات والاتحادات التي تم تغييبها بالكامل واستقطابها داخل معادلة الانقسام البائسة. وإن كان هناك من دلالة خطرة على هذا التغييب فهي ما يمكن أن تعنيه من تعميم للخراب على مستوى كل البنى الفلسطينية لا سمح الله، وهنا يكون الكيان الصهيوني قد نجح فعلاً في إستراتيجيته وشكل لنا سايكس بيكو جديدة ولكن هذه المرة على مستوى الشعب الفلسطيني.
ألا يحق لنا هنا أن نصرخ بكل الاستنكار: أين المجتمع المدني الفلسطيني الذي أنجب الانتفاضة الفلسطينية بقيمها الرفيعة التي شهدناها في بداياتها؟ هل استطاعت عملية أوسلو تطهير المجتمع المدني الفلسطيني من قيمه وضميره؟ أم أننا سنشهد حالة من التجاوز لهذه الظاهرة المسماة سلطة وهذا الانقسام/التجلي لحالة الاهتراء العربي والإقليمي ليعود شعبنا في الوطن إلى أخذ زمام المبادرة بيده، وتعود الأسرة الفلسطينية بوصفها مكونا اجتماعيا مدنيا تأخذ دورها الذي أخذته قبيل الانتفاضة، وتعيد الاعتبار للجان الشعبية باعتبارها مؤسسات مجتمع مدني تتجاوز السياسي المهيمن والمهترئ إلى ما هو وطني تاريخي قيمي؟
إذا كان العامل القائد في الانقسام الفلسطيني هو استدخال الاهتراء الفلسطيني والعربي الخارجي إلى الداخل، فإن المخرج الحقيقي سيكون في استعادة الإيقاع الداخلي الشعبي المدني الفلسطيني وتغليبه على إيقاع الخارج وليس العكس، وفي كسر كل المعادلات التي من شأنها أن تعيق مؤسسات المجتمع المدني الشعبية عن أداء دورها التاريخي وكونها وسيطا بين السياسي والاجتماعي وحاكما للحركة السياسية.
ونحن هنا لا نفتعل قسمة بين الداخل والخارج فشعبنا واحد موحد في قضيته ولكن الانقسام الذي حصل بات يطرح مشكلة الواحدية التنظيمية في مواجهة الوحدة الوطنية كتجل لمستوى احتدام التجاذبات العربية والإقليمية، مما يستدعي تجازهما بالشعبي. وعلى الفصائل إن أرادت تجاوز فصائليتها حقيقة أن تتيح المجال لاستنهاض الشعبي واستدخال الموروث النضالي بدل استدخال الهزيمه.