قصة الهجرة النبوية
إن الهجرة النبوية المباركة هي تاريخ أمة، وقصة ملحمة، فيها من الدروس والعبر الشتى الكثير، وفيها من الكرامة والنصر ما جعل الخليفة الفاروق يجعلها تأريخاً للأمة الاسلامية، ويضيق المقام عن سرد القصة كاملة وما يستفاد من دروسها، ولكن لا بد في هذه المناسبة العطرة من المرور السريع الى أهم محطاتها.
فقد مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر عاماً في مكة يدعو إلى لا إله إلا الله، وعانى عليه السلام سنوات طويلة من التعذيب والايذاء، والتشريد والابتلاء، وبعد اشتداد الأذى ينام عليه السلام في ليلة من الليالي فيرى دار الهجرة واذا هي أرض نخل بين لابثين، انها طيبة الطيبة، ومن قلة تنطلق ركائب المهاجرين ملبية نداء ربها مهاجرة بدينها، مخلفة وراءها ديارها ومالها، ويهم أبو بكر بالهجرة فيستوقفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول:«لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً» وعلى الجانب الآخر تشعر قريش بالخطر الذي يهدد كيانها بهجرته عليه السلام إلى المدينة فتعقد مؤتمراً عاجلاً في دار الندوة للقضاء على محمد قبل فوات الأوان، ويحضر الشيطان على هيئة رجل نجدي فيقترح تكبيله بالحديد واقترح آخرون نفيه من البلاد، فقام الطاغية «أبو جهل» واقترح أن تختار كل قبيلة فتى ثم يضربه أولئك الفتيان ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميع القبائل، فأعجبهم هذا الرأي واتفقوا عليه جميعاً وعينوا الفتيان.
وفي الليلة الموعودة أعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما أجمع عليه القوم وأذن له بالخروج الى يثرب، فذهب الى الصديق وأذن له باصطحابه واتفقا على إعداد راحلتين هيأهما أبو بكر لذلك، واختارا دليلاً يسلك بهما أقرب الطرق، كما طلب عليه السلام من ابن عمه أن يبيت في فراشه وان يغطى رأسه ببردة الحضرمي.
ويفتح عليه السلام الباب ويخترق الصفوف وهو يتلو سورة «يس» فلم يكد يصل إليهم حتى بلغ قوله تعالى:«فاغشيناهم فهم لا يبصرون» فجعل يكررها، وكان المجرمون ينظرون من شق الباب فيروا علياً ويظنون أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبحوا اكتشفوا الأمر وأخذوا ينفضون التراب عن رؤوسهم. وتوجه عليه السلام الى دار أبي بكر وخرجا معاً إلى جبل ثور بأسفل مكة فدخلا في غاره، وثارت ثائرة قريش فوضعت جميع طرق مكة تحت المراقبة المشددة، وأعلنت عن جائزة كبيرة مائة ناقة لمن يعيد محمداً وصاحبه حيين أو ميتين، وذهبت رسلهم تقتفي الأثر، أما رسول الله وصاحبه فقد انتهيا الى الغار، وروي أن أبا بكر دخل الغار وسد جحوره بإزاره حتى بقي منها اثنان سدهما برجليه، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ونام من حجر أبي بكر، وبينما هو نائم إذ لُدغت رجل أبي بكر من الحجر فتصبر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله من نومه، لكن دموعه غلبته فسقطت على وجه رسول الله فاستيقظ عليه السلام وتفل على رجل أبي بكر فبرأت في الحال.
وكان لأل أبي بكر أثر عظيم في الهجرة فهذا ابنه عبد الله الشاب الذكي يصبح مع قريش فيسمع أخبارها ومكائدها وفي المساء يتسلل إلى الغار ويخبر - صلى الله عليه وسلم - الخبر، فإذا جاء السحر رجع الى مكة، وكانت عائشة وأسماء رضي الله عنهما يصنعان الطعام ثم تنطلق أسماء به إلى الغار ولما نسيت ان تربطه شقَّت نطاقها وربطته به فسميت «بذات النطاقين».
وكان لأبي بكر راع اسمه عامر بن فهيرة. فكان يرعى الغنم حتى يأتيهما في الغار فيشربان اللبن، فإذا كان آخر الليل مر بالغنم على طريق عبد الله بن أبي بكر ليخفي أثر أقدامه.
وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ كافرٌ اسمه «عبد الله بن اريقط» دليلهما بالطريق وواعده في غار ثور بعد ثلاث ليال، ومكث رسول الله وصاحبه في الغار، ووصل بعض المطاردين الى الجبل وصعدوه حتي توقفوا على باب الغار، فلما رآهم أبو بكر قال: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال عليه السلام:«يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ولما خمدت نار الطلب جاءهما ابن أريقط فأرتحلا وسلكا الطريق الساحلي».
وفي مشهد من مشاهد الحزب وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشارف مكة ليلقي النظرة الأخيرة على أطلال أحب بلد إلى قلبه ويقول «أما والله إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى وأكرمها على الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت». وينطلق وراءهم «سراقة على فرسه طمعاً بالجائزة ويدنو منهم حتى يسمع قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للقرآن فيراه أبو بكر ويخبر الرسول، فيرفع عليه السلام يديه دون ان يلتفت إليه ويدعو: « اللهم أكفناه بما شئت، اللهم إصرعه، فتسوخ قدما فرسه ويسقط مراراً ويطلب الأمان، ويعده رسول الله بسواري كسرى، ويعود وكلما لقي أحداً رده، وقال: قد لفيتم ما ههنا، فكان أول النهار جاهداً على النبي وآخره مجاهداً عنه.
وفي الطريق يمر الركب المبارك بخيمة أم معبد ويسألها رسول الله - الطعام فتقول والله ما عندنا شيء ويرى الرسول شاة هزيلة في طرف الخيمة، فيستأذن أم معبد في حلبها، فتأذن له ويمسح عليه السلام على ضرعها ودعا فتفجرت العروق باللبن السخي، فسقى عليه السلام المرأة وأصحابه ثم شرب، وحلب لها في الإناء وأرتحل عنها، وفي المشهد الآخر بالمدينة يسمع الأنصار بخروجه عليه السلام، فكانوا لشدة شوقهم يترقبون قدومه ليستقبلوه عن مدخل المدينة فيخرجون كل يوم بعد صلاة الفجر الى الحرة على طريق مكة، فإذا اشتد حر الظهيرة عادوا الى منازلهم، حتى كان اليوم الذي رأى أحد اليهود ركب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فصاح «يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون» فكبر المسلمون فرحاً بقدومه وكان يوماً مشهوداً، واستقبله المؤمنون بالفرح واستبشر الناس بقدومه عليه السلام، وسمى الرسول يثرب بالمدينة المنورة، وآخى بين أهلها من المهاجرين والأنصار وبنى المسجد، ووضع الوثيقة التي تنظم علاقات المسلمين مع غيرهم من سكان المدينة، وصار المسلمون على قلب رجل واحد لا يفرق بينهم طمع الدنيا ولا يباعد بينهم حسد ولا ضغينة مثلهم كمثل البنيان المرصوص، وكان أول بيت نزل به رسول الله - بيت أبي أيوب الأنصاري.
وبعد الهجرة مكث عليه الصلاة والسلام في المدينة قرابة عشر أعوام، أقام فيها الدولة الاسلامية وبلغ البلاغ المبين، وأكمل الله به الدين، حتى أتاه اليقين