ويقوم الملك مع خصومه حتى يجثو بين يدي الموبذ فيقول له: أيها الموبذ، إنه ما من ذنبٍ أعظم عند الله من ذنب الملوك! وإنما خولها الله تعالى رعاياها لتدفع عنها الظلم، وتذب عنه بيضة الملك جور الجائرين، وظلم الظالمين. فإذا كانت هي الظالمة الجائرة، فحق لمن دونها هدم بيوت النيران، وسلب ما في النواويس من الأكفان. ومجلسي هذا منك، وأنا عبد ذليل، يشبه مجلسك من الله غداً، فإن آثرت الله آثرك، وإن آثرت الملك عذبك.
فيقول له الموبذ: إن الله إذا أراد سعادة عباده، اختار لهم خير أهل أرضه. فإذا أراد أن يعرفهم قدره عنده، أجرى على لسانه ما أجرى على لسانك.
ثم ينظر في أمره، وأمر خصمه بالحق والعدل. فإن صح على الملك شيء، أخذه به، وإلا حبس من ادعى عليه باطلاً، ونكل به، ونودي عليه: هذا جزاء من أراد شين الملك، وقدح في المملكة.
فإذا فرغ الملك من مظالمه في نفسه، قام فحمد الله ومجده طويلاً، ثم وضع التاج على رأسه، وجلس على سرير الملك، والتفت إلى قرابته وحامته وخاصته، وقال: إني لم أبدأ بنفسي فأنصف منها إلا لئلا يطمع طامع في حيفي. فمن كان قبله حق، فليخرج إلى خصمه منه، إما بصلحٍ وإما بغيره.
فكان أقرب الناس إلى الملك في الحق كأبعدهم، وأقواهم كأضعفهم.
فلم يزل الناس على هذا في عهد أردشير بن بابك ثم هلم جراً، حتى ملكهم يزدجرد الأثيم، وهو النحس البارتكر. فغير سنن آل ساسان، وعاث في الإرض، وظلم الرعايا، وأظهر الجبرية والفساد، وقال: ليس للرعية أن تنتصب من الراعي، ولا للسوقة أن تتظلم من الملوك، ولا للوضيع أن يساوي الرفيع في حق ولا باطل.
عقوبة الملك الظالم
فذكرت الأعاجم في كتبها وسير ملوكها أنه بينا هو قاعد في الإيوان، والناس على طبقاتهم ومراتبهم، إذ دخل من باب الإيوان فرس مسرج ملجم، لم ير قط شيء أحسن منه منظراً، ولا أكمل أداةً. فأهوى نحو يزدجرد الأثيم. فقامت إليه الاساورة لتدفعه عنه، فجعل لا يدنو منه أحد إلا رمحه فأرداه، وهو في خلال ذلك يقصد إلى الملك، فقام إليه يزدجرد، وقال للأساورة: دعوه، فإنه إلي يقصد.
فدنا منه حتى أخذ بمعرفته، فذل له الفرس، وتطامن حتى ركبه. فلما جال في متنه، خطا به خطىً، ثم رده إلى قرار مجلسه، فنزل عنه، وجعل يمسحه بيده، مقبلاً ومدبراً. حتى إذا وجد الفرس منه ممكناً وغفلةً، رمحه فأصاب حبة قلبه، فقتله. فقالت الفرس: هذا ملك من الملائكة، جعله الله في صورة فرس، فبعثه لقتل يزدجرد، لما ظلم الرعية، وعاث في الأرض.
وكان بهرام جور بن يزدجرد في حجر النعمان بن المنذر، ملك الحيرة، وضعه أبوه عنده ليتأدب بآداب العرب، ويعرف أيامها وأخبارها ولغاتها فبلغه خبر أبيه، وأن الفرس ملكت عليها رجلاً ليس من أبناء ملوكها. فاستنهض النعمان بن المنذر واستنجده، وقال: إن لي عليك حقاً، إذ كنت أحد أولادك. وإن أبي قد مات، وملكت الفرس رجلاً من غير بيت الملك. فإن أنت خذلتني، ذهب ملك آل ساسان. فقال له النعمان: ما أ وآل ساسان، وهم الملوك وأنا رعية؟ ولكني أخرج معك في جيشي لتقوى نيتك، وتصح عزمتك. ثم أنت أولى بقومك، وهم أولى بك. قال: فهذا أريد.
فخرج النعمان مع بهرام حتى صار بالمداين، وبلغ الفرس قدومهما، فخرجوا إلى بهرام، فقالوا: ما تريد؟ فقال: ملك أبي وإرث آل ساسان.
قالوا: إن أباك سامنا العذاب أيام مدته، فانفرد الله بقتله. فلا حاجة لنا في أحدٍ من عقبه.
فقال بهرام: إن جور أبي وظلمه لا يلزمني لائمةً، ولا يكسبني ذماً. وأنتم لم تخبروني، فيجب علي حمد أو ذم.
قالوا: فإنا قد أقمنا رجلاً نرضاه.
فقال: إن هذا فساد في صلب الملكة أن تملكوا من ليس من أهلها. فإذا فعلتم، فامتحنوني وهذا الرجل محنةً توجب المملكة.
قالوا: وما هي؟ قال: تعمدون إلى أسدين ضاريين فتجمعونهما في موضعٍ واحدٍ، وتضعون تاج المملكة بينهما، وتقولون لهذا الذي ملكتموه أمركم يأخذ من بينهما، فإن فعل فهو أحق بالملك وأولى. وإن أبى أن يفعل، وفعلت أنا ذلك، كنت أحق بالملك منه.
قالوا: نعرض عليه هذا.
فقالوا ذلك له، فقال: ما أقدر على هذا، ولكن قولوا له فليفعل. فإن أخذ التاج من بين الأسدين، فهو أحق بالملك وأولى.
فأخذوا التاج، وعمدوا إلى أسدين فأجاعوهما، ثم وضعوا التاج بينهما، وقالوا لبهرام: شأنك!.