عندما يصبح الكذب من مستلزمات الحقيقة
ومن مرادفات والحياة
الكذب ليس حلا بكل تاكيد
لكن البعض يظنه المتنفس الوحيد ... في عالم تحبس أنفاسه سرابات الحقيقة
للكذب فضائل زائفة لكنها آنية بعمره القصير في حين تبقى فضائل الحقيقة بطهرها خالدة خلود الدهر
يصعب على الحقيقة أن تعيش في غياب الكذب ... كلاهما يصنع الاخر ...
وكل كذبة تمحي ما قبلها ... والأكذوبة التي تعيش بتواتر حائر في هذا اليوم ما هي في الواقع إلا حقيقة أخرى أخطأت التاريخ او أخطأها التاريخ ... تاريخ ظهورها المؤجل ولا ريب ... أما تظاهرك بتصديق الاكذوبة على أنها حقيقة فهو مجرد أكذوبة أخرى موغلة في التزييف ... وسرعان ما تخلع عنك قناعها
إن بريق الحقيقة يبهت باستمرار سطوعها تحت ضوء الشمس ... أما أمل خلودها فيضيع لو لم يطغي عليها بين الحين والاخر سحاب الغموض ... ظلام الكذب ...
الحقيقية مثل الصور ... تصبح مملة إذا اطالت الظهور ... تحب أن تختفي كي لا تموت ... واستمرار بقاءها بنفس الحرارة واللون ... بنفس القوة والدلالة والنسق أكذوبة أخرى ..
غياب الصورة المستمر أيضا كذب ... و يستحيل العثور على نور الحيقية لولا تقفي أثر الكذب ..
قد يقول البعض أن الصور التي نراها كذب ... وغيابها أيضا كذب ... وأستطيع أن أعتمد هذه الأكذوبة على انها حقيقة .. ليقيني المطلق أن الحقيقة فعلا موجودة ولا نخترع نحن إلا الكذب ... الحقيقة لا تكمن في وجودها ككيان مجرد أكيد الحصول أكيد الحضور ... الحقيقة تكمن في بحثنا المستمر عنها ... عن ظهورها ... عن تجليها في صور أكثر قربا من معادننا ... أكبر صدقا في التعبير عنا ... إن البشر لا يستقرون ما حييوا على صورة ... نزاعون للملل ... ميالون للتغيير ... وعيونهم تشتهي الأكاذيب ولا تحب مشاهدة الحقائق دائما ... من أبشع الصفات أن تهرب غالبا من الحقيقة وتشتاق بين الفينة والاخرى إلى امتاع ناظرها بجرعة كذب ...
في السياسة أيضا يعتمدون على تحليل أكاذيب الحاضر لصناعة أكاذيب أنجع للمستقبل ... وقد قال حكيم أن الصحفيون لا يكشفون أكاذيب الساسة بل يكررونها لتصبح ذائعة الصيت أكثر ... وقد كان الكذب من القديم لغة الأسياد ولغة العبيد ...
الفن كما السياسة ... كلاهما قشرة رهيفة ما بين الحقيقة و بين الكذب ... وبما اننا نغالي فننحرف في سياستنا... ونتطرف غالبا في فننا فإننا ننزع لا محالة بهذه القشرة إلى طبقة الكذب ...
الكذب يترجم أحيانا أكثر من الحقيقة لمن اراد الهروب من روحه ... ومن أعماقه ... لان الحقيقة دوما تنتظر أوانها على مهل ... بينما نجد الكذب دائما على عجل ... ونحن حينما نمارس الحياة ... نريد أن نستعرض ما في أعماقنا بأسرع ما يمكن ... لا بد إذن من اللجوء إلى البوح السريع ... البوح الصادق الممتليء قسرا بالكذب ... وكلما تأخرنا اتُهمنا بالكذب أكثر إذ نعتبر الذين يكتمون مشاعرهم عنا أو يحرموننا مما تمتلكه مواهبهم من فن أو أعماقهم من أكثر الناس كذبا علينا ...
لأن الصمت والغموض ببساطة يعتبران أنضج فنون كبت الحقيقة ... و أفظع ألوان فضح الكذب ..
ومن هنا وباعتماد هذا المنطق نجد أن الكذب هو أسرع الطرق لتأليف رواية عشق ناجحة ... أو لتمرير نص سياسي جميل ...
أنا لا أتهم الروائيين بالكذب ... ولكنني أتهم كل الصور التي يرسمونها بالكاذبة ... الكتابة سلاح آخر لتزييف الصورة الواقعية للحياة ... للهروب من بشاعة الواقع ... للحصول على فترة راحة ... للوصول إلى رتبة السكينة ... لملامسة سدة الأحلام ...
الكاتب الصدوق هو أقدر الناس على العبث بهذه المفاهيم لاظهار الحقيقة بتبني الكذب ... وبقدر ما يفضح بالكتابة الكثير من جرعات الكذب لهذا اليوم ... بقدر ما يحضر موطئ قدم جديد لحقيقة الغد الموافقة لها وأيضا لتحضير كذبة جديدة ليوم جديد (كذبة يجب أن يصدقها الجميع) كي يستمر ببحثهم عن الحقيقة في هذه الحياة ... كذبة لا بد ... ولا بد من تجميلها كي تشتهيها العين ... كي يُهضم النص بسحرها ... فالقاريء المرهق في حياته غالبا ما يهرب من الحقيقة في نفسه ويبحث بعيدا في محيطها عن ضدها ... عن رديفها من الأكاذيب ..